ثقافة وفن

الواقعية السحرية دهشة الغموض تعالج قضايا الإنسانية

من تجربة العراقي أحمد جليلي والأمريكية فانيسا ستافورد

بشرى بن فاطمة

الواقعية السحرية Magic Realism إنها السريالية التي تنشأ مع الواقع وهي نتاج التجربة التي تحيكها الرؤية الواقعية مع التأملات البصرية بين الخيال المفرط في حركته والواقع المفرط في تناقضاته،
هي تيار فني تم تشكيله عند التقاطع بين الخيال والواقع وعرف أوجه التعبيري منذ عشرينات القرن الماضي، على الرغم من استخدام هذه التقنية قبل ذلك بآلاف السنين، حيث كان المصور والناقد الفني الألماني “فرانز روه” أول من اعتمد هذا المصطلح وعرّفه في سنة 1925، استخدم المصطلح Magische Realismus في كتابه ” Nach Expressionismus –ما بعد التعبيرية” لوصف الخيال المرئي المقدم في لوحات وموضوعات تشبه الحلم.
تتميّز الواقعية السحرية بعناصرها التكوينة داخل المنجز الفني مثل وجود الرموز السحرية المستوحاة من الأسطورة أو الأشياء الناطقة أو مفاهيم التخاطر، فكل عمل فني بواقعية سحرية يشمل مكونات خيالية غير موجودة في عالمنا، تترك مساحة للخيال فعلى عكس الواقعية ، تقدم الواقعية السحرية معلومات محدودة كمساحة متعمدة لتخيل العلاقة المتحوّلة بين الخيال والواقع، وهوما يساعد العقل الواعي على استيعاب المعلومات، وبالتالي قبول العنصر السحري وتضمينه للموقف العام من الأحداث المعاشة، مع كسر القواعد، سواء كان ذلك السرد في قصة أو استخدام الضوء غير العادي أو الألوان في الفنون المرئية للتأكيد على المعنى السحري.
وفي التصورات التجريبية للتجريب يقدّم كل من التشكيلي العراقي أحمد جليلي والتشكيلية الامريكية فانيسا ستافورد رؤية جديدة مركّزة على الأساطير التاريخية بحضورها المحفّز للخيال.
يبدو توظيف الواقعية السحرية معبّرا بإنسانية كثيفة المعاني والمفاهيم بهذا التصور المُبالغ في حكمته وطرافته وتطرّفه وتناقضاته الملحمية، فاتكاء كل منهما على مسار بصري وخلفيات رمزية كانت تلتقي على اعتماد التاريخ والأسطورة في فلسفتهما الفنية ما حمّل المنجز الفني أبعادا سيميائية مكثّفة تستثير القراءة والفهم والبحث في المقاصد ودلالات التعبير ومدى توافقها مع الواقع.
تبدأ فانيسا ستاوفورد من خيالها المشبع بحكايات الشرق وبما ينتابها من أحاسيس وصور ورموز وعلامات لها تصوراتها التي خلقت مواقفها من الواقع منتشلة لاوعيها في تقديم التأويلات الوجودية من التاريخ ومن الحضارة من صراعها ومن أثرها فهي تستلهم صورها من الحضارة الفرعونية القديمة والبابلية والكنعانية وأساطير الشرق في حكايات ألف ليلة وليلة في صور القصص القادمة من الهند لتقدمها مفاهيميا بأسلوبها الواقعي الساحر والسريالي المشبع بأفكار أحلامها اللامعقولة المتمازجة مع الحلم والخرافة وطرافة الصور اللامتوقّعة في الاحجام والأشكال في الصور والألوان التي تعلق بذهنها وتسطع.
فهي تثير الحركة في كائناتها تتابع الواقع بطرافة عجيبة المعاني، تسخر من ضحالة ذلك الواقع وسطحية السياسة بنواياها اللاانسانية التي تعيق الحضارة على نسج أساطيرها.
إن عفوية ألوانها وبساطة رؤاها وغرابة صورها ومشاهدها تشدّ عين المتلقي إلى تلك المشاهد بثيماتها التاريخية ومرجعياتها المتداخلة بين الخطوط والأحجام والاشكال والألوان.
ورغم أن أسلوبها المتدافع بصريا والكثيف في إثارة الدهشة يلتف على العناصر في تكرار يحاول التوازن والتماسك إلا أنها تبحث في تناقضات الحالات والحواس عن التماس الصدامي بين الشرق والغرب كما بين الخير والشر كان مدفوعا بالحروب بالقوة والاستحواذ، فالألوان الحارة والباردة والترابية وتدرجاتها المركبة تحدث ديناميكية وحركة عفوية.
أما منجزات احمد جليلي فتحمل الضوء على الرمز بتجرّد حر ينطلق أبعد في دلالات تتكاثف فيها صوره التجريبية، التي يركّز فيها مع البعد اللوني المتراوح بين ثقل وخفة.
حاول جليلي في منجزه الفني أن يقدّم جزئية هامة وعميقة من الواقع الداكن الذي هدّد ويهدّد منطقة “الأهوار” التي تقع جنوب العراق في منطقة الناصرية وميسان والمحافظات المُحيطة والتي تعدّ منطقة أثرية تمّ إدخالها إلى لائحة التراث العالمي اليونسكو.
وهنا استغل النقطة الأساس وهي التاريخ والأسطورة ليركّز عناصره الساحرة في المنجز الواقعي فعبّر عن الحضارة السومرية التي ارتبطت بشكل كبير بالمخلوقات التي عاشت على ضفاف النهر وكذلك الكائنات المائية والأسماك وقد أنتجت تفاصيل الحياة القديمة والحضارة العريقة من خلال آثار متنوعة، وهنا كان اختيار جليلي مستندا على الأثر التاريخي ليحاكي بصريا موقفه من تعرّض الأهوار للتهميش والإهمال البيئي الذي أدى إلى هجرة سكانها ونفوق الحيوانات والتلوث البيئي.
يظهر في أعمال جليلي التمشي الميتافيزيقي متشابها مع الخيال ودافعا للواقع ضمن غرائبية متدفّقة خاص عندما تحاكي أمثولة الأنثى والسمكة والرجل والمركب الزورق وعلاقة السعي المندفع بين غواية الحياة والعمل فيها وبين الاندفاع الحالم والتدفق العميق، فالسمك في معانيه التشكيلية ورمزيته السومرية يعتبر رمزا للخصوبة وتجدّد الحياة والتمازج مع السمك خلق كائنا أسطوريا كان له تأثيره على مختلف الحضارات القديمة وبالخصوص حضارة بلاد الرافدين كما هي الأسطورة السومرية في “شوروباك” مثلا التي تجسّد تزاوج الانسان والأسماك.
إن للواقعية السحرية مرونتها التجريبية وهي تثير برحابة الرمز ليتشكّل في الصورة أبعد في معقولية التوقّع لتصبح المقاصد نتاج خيال معلن وغرابة منتظرة لا تقف عند التحاور بل تسعى أبعد في التمازج الإنساني.

*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق