
رحيل بحر زاخر إلى جنان الخلد
عبد القادر أحمد فضيل (مدير سودان أيرويز السابق)
نعى واحتساب
عبد القادر أحمد فضيل
رحيل البحر الزاخر إلى جنان الخلد
“السودان يفقد ابنه البار عبد القادر أحمد فضيل”
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة 155 – 157
إنّ الغربة يا سادتي دار الحزن ومنزل الألم بجدارة. وكل هذه المآسي نلعقها في كل لمحة ونفس ولا يزال الوطن يرقد في مقبرة من الأسيّة وفي بحور الدماء التي لم تنفد بعد. فقت من سباتي صباح الأمس وإذا بي أجد رسالة من شقيقي الحبيب عثمان بدوي مصطفى قائلا والآهات قد التفت بأعناق الرسالة: “انتقل الخال الحبيب عبد القادر أحمد فضيل إلى جنان الخلد”. في تلك اللحظة دارت بي الدنيا ولطمتني بكف عفريت، حقيقة لم أدر ما أفعل، أألبس هندامي وأهرول إلى خالتي الحبيبة علوية الريح العيدروس لأقف معها في محنتها، أم أصيح لأبكي وأندب حال هذا الزمن العاثر، رغم أنها مشيئة الله ولا راد لمشيئته، أنه اجتث منّا أحب الناس إلى قلوبنا في فجر يوم الأمس والمآذن تناديه: هلمّ يا عبد القادر، فأنت قادر على كل شيء، ومقدّر لك سفرك إلى برزخ الأرواح الطاهرة مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. وكما أخبرني أخي الحبيب محمد عبد القادر، أنهم لم يتردد فلبّى النداء راضيًا مرضيًا مغسولا من كل ذنب وهل كل لهذا الملاك ذنوب؟
لمن لا يعرفه فالخال عبد القادر من أبناء أمدرمان، تعلّم وعلّم الأجيال بشركة طيران سودان أيرويز. كان لهم الصديق والحبيب، الأخ والزميل، بل ملأ كل دنياهم بالحب والمحبة والاحترام. ويشهد له مطار هيثرو الصولات والجولات، وما من أحد طرق بابه فرّده وإلا فأكرمه وأحسن مقامه. فترك بصمات لن يعرفها الوطن ما دام على هذه الأرض وما دمنا عليه. ابن السودان البار عبد القادر شعلة أضاءت وتضيئ وستضيئ لنا مسالك الزمن وترهات الأمكنة، تعلمنا منه نكران الذات وقول الحق ولو كره الكارهون، علمنا حب العلم والإخلاص فيه، الكرم الشهامة الود، صلة الرحم، وكل شيء جميل مرتبط بهذا الرجل الجميل. .
لذلك أقولها وأردها يا الخال “قدورة” كما أحبنا أن نناديك ونناجيك ونحن هنا في وحدة ووحشة إلا من رب عليم وكتاب قويم. ملأ بالأمس الحزن قلوبنا وطفنا مع ملائكة الرحمة نناجيك في برزخ الأرواح الطاهرة، فأنت قلت، كما أخبرني أخي محمد عبد القادر، كلمة لا إله إلا الله قبل أن تنتقل إلى الدار الآخرة. وكلمة لا إله إلا الله عندما تظهر للصالحين وأنت منهم دون أدني شك، يصيرون من أهل البرزخ، ذلك في حديث والدي رحمه الله: ” كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (سورة المؤمنون ١٠٠)
نعم يا سادتي يطوف بيّ وأنا أكتب هذه الأسطر التي لا تفي بقدر خالي الحبيب عبد القادر فضيل، أبكيه وأنعيه وأرحل مع روحه لأسلمه لحفظة الكتاب وحرّاس الفردوس. غرقت بالأمس في نيليّ الأسى والجروح، أبيضه كان أم أزرقه،
لقد أدمع السودان بنيليه لرحيل البحر الزاخر والأب الروحي لأسرتنا، الخال عبد القادر، حتى جفّت أدمعه وصار سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
ولن تجف أدمعنا لفراقه
لقد خلّف “الخال عبد القادر “فينا أريجًا جليلا في عشقه وشغفه في محبة الناس وفي صلة الرحم تجاه القريب والغريب القريب والبعيد، محبته للناس صادقه كصدقه تجاه نفسه وربه، إخلاصه لذويه وبلده الحبيب مثال يحتذى به في كل زمان ومكان. أثره الطيب بالملازمين، الدبية العسيلات، جوبا، لندن، بيرن، جنيفا، وأمدرمان وعاصمة السودان الخرطوم يبقى شعلة تضئ لمن ضلّ سواء السبيل ولمن أراد أن يهتدي بهديه، فهذا الأخير ما هو إلا نهج رسول الأمّة وكاشف الغمّة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلوات.
إييييه يا زمن، نعم، ذكريات تنضح صادقة بولاء وإخلاص، رحل وبقي عبد القادر فينا، وستبقى تلك المآثر من ذكريات طفولتنا، مطلع شبابنا وشيخوختنا المبكرة فينا، نحن أهله وأحبابه وأصدقاؤه، ما دمنا على نحيا على أديم هذه الأرض. وهم السابقون ونحن اللاحقون:
كلّ ابن انثى وإن طالت سلامته … يوما على آلة حدباء محمول (الشاعر الجاهلي كعب بن زهير)
طيب أثره وجميل ذِكَرِه وعِطرت الأيام الخالدة قبره.
نحمد الله أن الأيام التي حظينا فيها بقربه كانت من أجمل أيّام حيواتنا، وستظل قيم كثيرة، فكره وسماحته وبشاشته وكرمه، باقية في نفوسنا ما بقينا على سطح هذه الدنيا. لله درّه والفقد دون أدنى شكّ جلل.
ينعى السودان البلد الجريح، شماله وجنوبه، شرقه وغرب آل فضيل وآل العيدورس وآل سيد مكي، وآل بدوي وآل سيف النصر فقيد الوطن الشهيد عبد القادر أحمد فضيل، الخال البار والأخ والصديق الوفي والإنسان المرهف، الصادق الصدوق الذي أُضنِيَ عن قناعة تامة وصبر جميل بحب الوطن وسلامته وتقدمه، لقد وافته المنية فجر الأحد الثلاثون من شهر أغسطس (آب) من سنة ٢٠٢٣ في تمام الساعة الرابعة ونيّف صباحًا بمنزله بمدينة بيرن (سويسرا)، ولا يسعنا في هذه اللحظات المؤلمة القاتمة إلا أن نقول إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ونستذكر بصدق وأمانة جمائله الكثر ووطنيته الخارقة للعادة وحبه لأهله وللناس أجمع.
(أسرة صحيفة المدائن بوست: www.almadayinpost.com)