ثقافة وفن

زخم الدلالة وأبعاد الخطاب التحليلي في كتاب “ليكن هناك نور” للكاتب كوكاس

بقلم: مريم التجي

قبل البدء..
حين توصلت بنسختي من كتاب “ليكن هناك نور.. مقالات في وصف حالنا” للكاتب والصحفي عبد العزيز كوكاس، قررت أن أقلب بعض صفحاته، وأتركه إلى أن تصفو سمائي، لأعود لقراءته في وقت لاحق. كما عادتي مع الكتب التي أعتبرها جديرة بالتأمل ولن تخرج من مصاحبتها خاوي الوفاض، فائدة ومتعة كتابة.. أرخيت الشراع، وتركت سفينتي تبتعد قليلا عن الشاطئ، لا أدري متى وكيف تركتها تبحر، ولم أنتبه إلا وأنا على الشاطئ الآخر من الكتاب.. لقد تورطت في القراءة حتى تحت ضغط لواجبات الثقيلة لليومي، ونتيجة هذا السفر، هو ما سجلته هنا كانطباعات أولية

“اتقوا الله في طفولتنا، واحموا أبناءنا بالعدل الذي يمكث في الأرض، أما زبد الانتقام فيذهب جفاء” هيسبريس 20شتنبر 2020.
كانت تلك كلمات آخر مقال، بين دفتي كتاب متوسط الحجم، بلغت صفحاته 189 صفحة، صدرت عن منشورات النورس، في أبريل 2023.
طيلة الرحلة، انتقلت بين الحاضر والماضي القريب، وحملتني بعض الشذرات الى سنوات التسعينيات أو عقد الأحلام، الذي عاشه جيلنا بالكثير من الصخب والتمرد والثقة الزائدة عن الحد في بعض الأحيان.
بين ابتسامة وملامح غضب، كان كوكاس يتجسد عبر مقالات بدأت تشرئب بعنقها طويلا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، مقالات لشاب نحيف، بشعر أسود، متحمس ومندفع، مثل شباب ذلك العقد التسعيني. ذكرني بالحلقيات الطلابية التي كانت تملأ ساحات الجامعة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، والتي كانت تملؤها خطابات حماسية غاضبة وحالمة وساذجة أيضا.
ومن نوافذ أخرى كان يطل ككهل رصين ارتسمت تضاريس الزمن على ملامحه، فصار واقعيا مثل العشرية الأولى من الألفية الثالثة، بعد أن صارت “البراغماتية عقيدة للحاكم والجمهور”.

الغلاف ذلك المدخل العجيب..
في قلب الغلاف تشرق شمس على سيقان أشجار بلا أغصان ولا أوراق، وما دام الكتاب عبارة عن أحلام غير منتهية الصلاحية، لجأت الى تفسير حلم الشمس، فأخبرني ابن سيرين أشهر مفسري الأحلام، أنها ترمز الى الملك.. الحاكم… صاحب السلطة الأعلى، ومن يكون له سلطان على الرائي.
ترى من له السلطة على الرائي في سلسلة الأحلام التي صدرت تحت عنوان “ليكن هناك نور”، هل هو الإنسان والكرامة الإنسانية، أم صاحبة الجلالة التي كتبت أولى حلقات هذه السلسلة في بلاطها، في أوج قوتها، ذات مغرب كان يودع قرنا بعقد تسعيني صاخب، ويستقبل قرنا جديدا كاد يحيد على “المنهج الديمقراطي” قبل أن تعيدنا رياح الربيع العربي إلى بعض مما حلمنا به على الأقل؟
توسطت الشمس غلاف الكتاب، نورها ينبعث برغم كثافة الأعمدة الحاجزة للنور أو المعرقلة لانتشاره، مكسرة ظلال الأعمدة الكثيفة إلى الخلف بسواد جلي، لكن الكرة الملتهبة تبدو مشعة بألسنتها الذهبية بالأصفر صديق فان غوغ وبول غوغان، صاعدة بقوة نحو الأعالي، الأزرق الذي وشم نصف الغلاف، نحو العنوان الذي اختاره الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس للجزء الثالث من أحلام غير منتهية الصلاحية، وهو “ليكن هناك نور” ذي الدلالات الدينية والأسطورية والرمزية.
لقد خاطب الله الفراغ حسب سفر التكوين، وقال له أوجد النور، فكان العالم.. فالنور يسبق الوجود. ربما نور الحروف الصادقة والمناضلة والمشتعلة يسبق وجود الإنسان المكفول الحرية والحياة الكريمة.. النور كشعاع للأمل المستمر الذي يصر المستبدون والفاسدون على إطفائهم لكن الله متم نوره وحافظ لتوهجه ولو كره الكارهون، النور كصوت للحكم وللعقل، نستحضر فلسفة الأنوار، النور كمرادف للعلم والعقل، ضد ظلمة الجهل التي تحجب الحقائق، النور أيضا كصوت للحق، للكرامة، لحق الناس في المعرفة، وإزاحة يرقات العتمة والتعتيم.. وقد كان مؤسس الواشنطن بوست ساليزبورجر يؤكد دوما- كما يخبرنا كوكاس في أحد حواراته- أن دور الصحافة هو ليكن هناك نور، فقول الحقيقة مهما كان مرا لا يعني زراعة اليأس بل خلق الحق في الأمل.

مقالات صحفية تتحدى الزمن..
تتوزع المقالات المبثوثة بين دفتي الكتاب بين عامي 1994 و2023، مما يجعلنا نتساءل، أليست الصحافة حروفا تحلق بصخب أحيانا، لكنها تهدأ الى أن تتلاشى مع مرور الزمن، وتصبح مجرد أرشيف هرم منعزل في مكان بارد، لا تكاد تحركه إلا يد باحث عابر في أحوال الناس في ذلك الزمن الغابر؟ فما الذي يجعل هذه الفئة الناجية من المقالات تخرق هذه القاعدة، وتتزيى بحلة جديدة وتخرج بين دفتي كتاب؟ فالصحافة لحظية وبنت زمنها، إنها تقتات على اليومي والعابر من الأحداث فما الذي جعل مقالات هذا الكتاب التي كتب بعضها في منتصف التسعينيات يقدم متعة وفائدة حتى اليوم في بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة؟
أعتقد أن هناك أسبابا وجيهة تمنحها هذا الشرف، فمن جهة نحن أمام نصوص صحافية مكتوبة بلغة إبداعية، ومعلوم أن النص ذا اللغة الأدبية يتعتق مع مرور السنين كما نعلم. وتصبح متعته وفائدته أبهى.. ومن جهة ثانية فإن هموم الانسان كما هي لم تتغير كثيرا في مغرب الانتقال الذي أقمنا فيه أكثر مما كان متوقعا. حيث يلاحظ المتتبع أن المغرب كدولة وكمجتمع اشتغل على البنية التحتية وحقق نموا ظاهريا لا تخطئه العين. ولكن أوراش التنمية البشرية التي تتجاوز توزيع المحافظ الى بناء عقل الطفل ليكون حرا عصيا على الاستعباد لا من التطرف ولا من غيره، لم يبدأ بعد.
بنينا بعد سنوات من النضال محاكم فاخرة، وجعلنا للعدالة قصرا وأسكناها في أحد أقبيته، لدينا معمار أصبح باذخا في شتى فنون الإعمار، طرق وجسور وقناطر وسدود، لكن…تنميتنا لم تنجح لحد الآن في رهان الانسان الذي من أجله ناضل الأحرار منذ فجر الاستقلال، لهذا لا تزال بعض المقالات الحارقة والمحتجة تجد راهنيتها إلى أن نكسب الرهان. ولهذا لا تزال أحلام عبد العزيز كوكاس غير منتهية الصلاحية.
ومن جهة ثالثة نحن أمام نصوص، سطحها هادئ وأعماقها هادرة، مثل عقد التسعينيات الذي كان عقد الصحافة المستقلة والأقلام المتمردة والأحلام الكبيرة بامتياز.. ولهذا كان صاحبها ضيفا على “موالين الحال” أكثر من مرة. ومع ذلك لا يزال يحمل قلمه على ظهره كصخرة سيزيف، لكن بغير المسار العبثي… بل من أجل أن يكون هناك نور، يقول الكاتب فيما يشبه الاستفهام الاستنكاري الماكر في مقدمة كتابه: “حين كنت أخط هذه الكتابات لم أكن أفكر يوما في إصدارها مجتمعة في كتاب، كانت وليدة اللحظة السياسية والصحافية التي أملت كتابتها، فالتحليل الصحافي محكوم باللحظة الزمنية التي أوحت به، المقال الافتتاحي هو تعبير عن موقف من قضية ومحاولة فهم حدث أو واقعة، يفكر في اللحظة أكثر مما يهمه الخلود، لأنه مشروط براهن كتابته، لكن بعد مرور الزمن، ثمة ما يبقى صامدا، هل لأن الواقع لم يتغير كثيرا، أم لأن عمق الكتابة بكل الوجع المصاحب لها نجح في القبض على ما هو جوهري في الميكانيزمات المحركة للأحداث والوقائع” ص10.
ما يجعل في تقديري هذه الكتابات تستمر في الحياة بيننا، حتى أن طبعة “ليكن هناك نور” نفذت خلال ثلاثة أشهر من إصدارها بين بداية أبريل ومنصف يونيو الماضي مع نهاية المعرض الدولي للكتاب بالرباط، هو أن لا زالت تجيب عن أسئلة جيل آخر ليس هو الجيل الذي حضر ميلادها، وستستمر أيضا لأن ذات الإشكالات الكبرى المعالجة لا زلت لها راهنيتها وملحاحيتها، أيضا لأن الإعلامي عبد العزيز كانت عين ثالثة يرى بها الوقائع تتجه صوبا نحو الجوهري في الحدث لا حواشيه ولا العابر منه أو اللحظي.

صورة من أعلى..
ويمضي كوكاس في زاوية أخرى من كتابه “ليكن هناك نور” ليضعنا أمام أسئلة كبيرة تؤرق جيلا عايش أو عاش على أصداء أسماء كبيرة مثل دوغول وتشرشل ولينين وغيفارا وهوشي مينه ونهرو وغاندي وجمال عبد الناصر والحسن الثاني…ووجد نفسه اليوم في “عالم أصبح كل شيء فيه معلبا ومسطحا”.
هذه الأسئلة، جعلتني أضع الكتاب للحظات وأفكر في صحفيي التسعينيات وما قبلها، تلك الأقلام التي كانت تهز القلوب وتستفز العقول وتقلق السلطة وتلهب النخبة ويساندها المثقفون.. في كتابة لا تكتفي بوصف الأحداث بل تصنعها، لماذا تراجعت إلى الخلف لينتهي بنا المطاف إلى صحافة تبحث عن فضائح البسطاء والحمقى لتجعلها غلافا لليومي الذي صار المغربي مجبرا على استهلاكه…؟
في ركن آخر وجدتني أتذكر ذلك الصوت الصباحي الذي كنت أسمعه في الراديو ذات زمن “هنا الرباط.. إذاعة المملكة المغربية”، وأنا أقول عن كتاب ليكن هناك نور: “هنا الفلسفة.. صحافة المملكة المغربية”، لأننا بالفعل أمام قضايا وجودية كبرى وقلق فلسفي واسئلة عميقة محركة للتاريخ وحتى للجغرافيا كما كان يقول بيسمارك.
عبد العزيز كوكاس قلم مثل جيلا، كان عميقا وهو ينحت تضاريس الوطن باستماتة، وهو يغير اللغة “لأنك حين تغير اللغة ستغير العالم” حسب مقولة كونفشيوس التي استشهد بها الكاتب في رحلة بحثه عن المعنى، في حوار افتراضي.
كأن الزمن لم يتغير، وهموم الكلمة ومسؤوليتها الكبيرة لم تتحول كثيرا منذ زمن سقراط، حين قال لمخاطبه اديمنتس في بيت سيفالس في بيرايوس ” فأول واجب علينا هو السيطرة على ملفقي الخرافات…”
لا تكتفي أحلام كوكاس غير منتهية الصلاحية بأخذنا في رحلة تتنوع بين الفائدة والمتعة، بل تدثرها بسخرية سوداء.. وقد اختار أن تكون محطة الانطلاق الى رحلته عبر لحظة حلم ولحظة فخر مغربية بامتياز، حين سرقنا الشمس من قمة الجبل، وحين فك الأسود لعنة السحر والدعارة عن نسائنا، وأحيوا كبرياء الوطن في مونديال قطر 2022.
ونحن لا نزال في نشوة الفخر، ونحن نحتضن الشمس، ينزل بنا كوكاس الى السفح في منعرج للبحث عن المعنى، ذكرني بفيكتور فرنكل وقصته الغريبة في البحث عن معنى داخل الأقبية المروعة للمعتقلات النازية.. في واقع مغربي صعب “حيث يغيب المعنى فيما يظل الفراغ والتفاهة محافظين على سكونهما بشكل مطمئن”.
وفي محطات أخرى يواجهنا الكتاب بلغة ساخرة وقاسية وهو ينتقد أداء “حكومة ضاحكة لشعب حزين ووزراء ناشطون جدا” ص20، يقول: “في الوقت الذي كنا نتمنى أن تختنق مجاري اختلاس المال العام، اختنقت مجاري الصرف الصحي..” ص172
وقد يذكرنا بمحطات تاريخية قاسية وهو يوجه رسالة احتجاج “الى إرهابي” ص227، وإن كانت تلك المحطة توثق للعمل الإرهابي الذي استهدف مدينة مراكش عام 2018، إلا أنه ذكرني بلحظة كانت جرحا أعمق، عندما استيقظ العالم صبيحة 16ماي عام 2003، على مناظر الأشلاء ورائحة البارود..
ساعتها لم أصدق، كما الكثير منا، ما حصل وكنت أحتاج لأحداث أخرى، ولرؤية العالم من زاوية مختلفة، لأعرف أن الإرهاب عفريت يسكن رؤوس القطيع، ولا يحتاج إلا لمن يفتح القمقم ليدمرنا جميعا وبلا رحمة.
“مقالات في وصف حالنا” هكذا وصف عبد العزيز كوكاس كتابه، الذي وجه سهام النقد للداخل وللخارج أيضا، لكن حتى عندما تحدث عن الجزائر في لحظة ميزها خطاب شعبوي عنيف ومهين أحيانا في نقده لسياسات الجارة الشرقية تجاه المغرب، حافظ كاتبنا على رصانته وحكمة قلمه.
وتبقى أحلامنا “غير منتهية الصلاحية” وسيكون هناك نور، وتكون للنفق نهاية، مادام الجسم الإعلامي المغربي لا يزال، ورغم زخم الرداءة الذي اجتاحه، تنبض فيه أقلام تجمع بين الصدق والإبداع إضافة الى ما راكمته من تجربة صحفية غنية، ذلك لأنه كما كتب المفكر عبد السلام بنعبد العالي في مقدمة الكتاب: “تتميز كتابات الأخ عبد العزيز كوكاس بكونها تهتم بالمبنى بقدر ما تهتم بالمعنى، حتى أننا نعجز في بعض الأحيان عن تفسير إعجابنا بنصوصه، فلا نستطيع أن نرد ذلك إلى انبهارنا أمام صياغتها، أم إلى اقتناعنا بأفكارها، وما إذا كان الأمر يعود إلى جمال العبارة، أم إلى عمق الفكرة.
ما يزيد هذه الكتابة حيوية، هو أنها لا تكتفي بعرض أفكار مجردة. فهي لا تكتب من أجل الكتابة، وإنما تحاول ملاحقة تطور الأحداث ومعانقة الحياة الفعلية بأسلوب حي، فتجمع بين طراوة الحدث وطراوة الكتابة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق