
بشرى بن فاطمة
منذ ستينات القرن الماضي بدأ الفن الحروفي في الظهور والتأثير واتخذه العديد من التشكيليين العرب والأجانب أسلوبا وتقنية وحضورا وتوظيفا تفاعليا خرج عن وقع النص وأخذ الحرف على إيقاع اللون وكان بذلك المستوى انتصارا متوازنا لروح التجديد الحداثية ولفكرة التجريد التجريبية التي تكاملت بين الهندسة والتشكيل على عدة مستويات بصرية معبّرة.
حمل فيها الحرف العربي مستوى اتّسم بحرفية وجمالية تكاملت بفلسفة حية لونية تشكيلية مختلفة استطاعت أن تثبّت رؤى الفنون الإسلامية والشرقية وتخلق خصوصية شرقية على التصورات الفنية العالمية كما اندمجت معها لتضع مسارا فنيا جديدا تمازج مع بقية مدارس الفن التشكيلي فكان التوافق الحروفي إما سندا وتضمينا وإما استحواذا على الدور الكامل لتشكيل اللوحة.
وهو المستوى الفني الذي استطاع الكثير من التشكيليين العرب تقديمه في صورة جماليا عالمية الخصائص نذكر من بينهم التشكيلي حسين يونس والتشكيلي صالح الهجر، حيث حمل كل واحد منهما مبدأ رؤيته المشحونة بتفاصيل الأرض والانتماء وخصوصيات الهوية المتكاملة مع مبادئ الإنسانية والبحث عن التفرّد والتماهي مع الموروث الحضاري والإنساني والثقافي.
فحسين يونس عند إنجاز اللوحة تمكّن من أن يعايش الفكرة في النص ويطلق خياله ليطلق محاورات لونية وبصرية تركت لحروفه حرية ايقاعية وحيوية في البحث عن المعنى وحرفية في تفكيك الرمز المجازي، حتى يمكّنها من ترويض الخط وهندسته ليصل مداه الفني متآلفا مع عمقه الجمالي التشكيلي.
وحسين يونس تشكيلي حروفي وخطاط لبناني حاصل على شهادة إنهاء المرحلة العليا في خط “النستعليق” من إيران تميّز بهذا الأسلوب بحرفية توظيفه تشكيليا، أكسبه تفرّدات بصرية تفاعلت مع جماليات اللون في تمكينه من الفضاء والتفاعل مع المفهومية التي تقدّم اللوحة بشكلها المعاصر، اكتسبت روحا تعبيرية إسلامية تمازج فيها الواقعي مع الصوفي بين اللغة والمعنى والحرف والألوان ومفاهيم الكتل والأحجام والفراغ.
لقد استطاع أن يكتسب منهجية التجريب التي جمعت المعاصرة الفنية والتفرد الروحاني ليكون العمل التشكيلي ثابتا في أرضه ومنطلقا في مخياله جامعا بين الواقعية والحلم.
وهو ما يعكس قدرته الفعالة التي منحته جرأة استدرج بها المتلقي من جديد نحو عوالم الأدب والشعر والحكمة وتطويعها بانسيابية حملته نحو طاقة مختلفة تشبه عصرها الحالي، فقد تقمص معها دور الابهار.
سحب يونس من الحروف العربية طاقتها الجمالية الموضوعية والحسية والمعنوية والفنية وترك الشكل والمعنى والعمق تتجادل مع المفردات المشكّلة كل عنصر يسحب الآخر الى عوالمه ليؤسس عالما جديدا للمتلقي.
كسر يونس حواجز المألوف من خلال الحرف ليكون له كل المنافذ التي اعتمدها حتى يصل إلى مقاصده البصرية وبالتالي ساعده على ترويض الحرف وفق إيقاعه السردي، وهو ما مكّنته من خلق صياغات جديدة تعالت على الصور النمطيّة التي خزّنها المتلقي عن اللوحة الحروفية.
ولعل هذا الأسلوب المتمرّد اختاره التشكيلي الحروفي صالح الهجر في تجربته حتى يخلق همزة وصل إبداعية وجمالية في أعماله بين التأصل والابتكار ليتشابه مع اليونس ولكن يختلف من حيث التوظيف التجريبي المعاصر والتماهي مع العمارة بأشكالها البنيوية وهو ما بيّن امتثاله أكثر نحو شغفه التجريبي ومساره التجريدي ليعبّر في اللوحة الحروفية عن اللغة البصرية التي تجاوزت فكرة اللغة اللفظية في اللوحة الخطية تلك اللغة التي قد تضيّق حدودها عن الفهم الفني في البحث التشكيلي.
والفنان صالح الهجر تشكيلي سوري استطاع أن يُحقّق بأسلوبه رؤى حفّزته على التجريب ليكوّنها ويفعّلها وينطلق عبرها نحو ذاته.
في أعماله يقدّم الهجر الشكل والحرف والخط واللون بالاعتماد على فكرة التعامل مع الصيغة التشكيلية في تعاطيها مع المعنى وماورائيات التعبير فالتجريب اللوني هو منفذ للتجريد الذي تعامل فيه مع الحرف ما نقله من الحركة والهندسة الى الامتزاج مع روحانيات جديدة تمكّنت من التشكّل والتعدّد الذي وهبها دلالات بصرية استنطقت الأمكنة والذاكرة والحنين والملامح دون أن تجسّدها في الشكل بل في الحرف، ضمن توليفات وإيقاعات حملت الحروف بصريا نحو عمق موسيقي بانسيابية لونية.
يحمل اللون في أعمال الهجر تدفّقا وحركة هي التي تندفع نحو الرؤى البصرية للمتلقي الباحث عن المعنى فتستدرجه نحوها ليندمج معها ومن ثمّة يبحث فيها عن قراءاته المجرّدة وتفاعلاته التجريدية مع الرمز وبالتالي تنتابه اللغة البصرية فيتكامل معها في تلك الألوان نحو تدرجاتها الضوئية ودلالاتها.
يعمد صالح الهجر بالحرف إلى تكوين الرمز مع الاستئناس الحسي حتى يحافظ على مساحة اكتشاف الفكرة بحماس ينطلق أبعد في الفضاء اللوني وشغب التدرج فيه المعلن وكأنه يجمع شبيهان متناقضان أصالة الحروف العربية في كينونة الخط والحرف وخصوصية التفرد المعاصر للمدارس التشكيلية.
لقد تمكّن كل من اليونس والهجر من توظيف المساحات واكتساحها خيالا دمج الذاكرة المشبعة بالحنين والتفاصيل المتكاملة بالتجريب وهو ما ساعد الأسلوب الحروفي على أن يتعانق ويتنافر ويلتحم وينفصل ليعود بتصوّراته الجمالية ويفتح للمتلقي مدنا وملامح تسكن الذاكرة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections