
بشرى بن فاطمة
شكّلت أحداث غزة وما تشهده من عدوان غاشم ومجازر وإبادة، عنصر تأثير صادم للعديد من الفنانين والمصورين الذين وجدوا في فنّهم وسيلة تعبير مغايرة استطاعت أن تتجاوب مع مواقفهم الإنسانية التي لم تقتصر على التعبير فحسب بل كانت بمثابة احتجاج على الموقف الدولي وسلبيته في فرض الصمت والتعامل مزدوج المعايير وتبني رواية المجرم واستنقاص رواية المظلوم من أحداثها التي تجاوزت أكثر من سبعين عاما من التهجير والتشريد والأسر والقهر، واقتصارها في حدث واحد كان بمثابة ردة فعل مبنية على سنوات من الحصار، وهو ما رآه المصور الفوتوغرافي والناشط الاجتماعي الفنان الامريكي John Takami Morita وهو يعيد تفكيك الحضور الأول الذي جمعه في الشرق عند اشتغاله بالعمل التطوعي الإنساني والعمل الصحفي في فلسطين ولبنان.
يقول موريتا إن الشرق الذي انتقل إليه في الخمسينات وفي الثمانينات بالخصوص عندما واكب أحداث الحصار في الضفة الغربية والقدس وأحداث الاجتياح في لبنان ومعايشته لمجزرة صبرا وشاتيلا بتفاصيله المؤلمة والصادمة كمصور صحفي، استرجعها وهو يتابع ما يحدث في غزة بمختلف تلك الوقائع التي استطاعت أن تجعل صوره إلى اليوم ذات قيمة إنسانية تعبيرية سجّلته كفنان فوتوغرافيا مفاهيمي الأسلوب حيث حمل الصور وأعادها تعبيريا.
إن الأحداث في غزة أعادت له من جديد تفاصيل الصراع وفعّلت حسّه المناهض للوحشية والدموية حيث استرجع مع تلك الوقائع تجربته الفتوغرافية التي نقلها في تلك المرحلة والتي لم يتغيّر فيها إلا المكان خاصة وأن صوره وبكل ما سجّلت وحملت من تفاصيل فنية كان لها محتواها وقراءاتها الرمزية وأبعادها الدلالية التي ركّز فيها على الكثير من المعاني الفنية المعاصرة من خلال توظيف الضوء والصورة وتكثيف الحركة وتوصيف اللحظة واقتناص اللقطة بشكل عفوي له معانيه الماورائية والاستباقية.
يحمل المفهوم في الصور التي يقدّمها موريتا الانسان كانتماء وهوية وحضور يركّز فيه على فكرة الوجود.
وهذا الوجود مبني على صورة الانسان نفسه بتناقضاته الوجودية التي تعكس الكم والكيف في الوجود والحضور والفناء معا من حيث اعتبارات الانتماء إلى عرقه وتشبثه بالأرض الفكرة والرمز وبالحضور فيها ماديا من خلال المقاومة ومعنويا من خلال الاستشهاد كأيقونة بقاء وخلود تستثير لغة الاندماج التوأمي مع الأرض، لذلك كان موريتا يتماهى معها وفيها بين شاهد ومنتم لها.
عبّر موريتا في تلك اللقطات والمشاهد والصور بكل انسانيته التي بقيت فيه وفي تعابيره حيث حملت الصور الكثير من السواد والسوداوية التي لم يخترها هو بل اختارتها الأحداث والكادر العام للواقع فهي لم تكن من فراغ، فقد كان لا يرى إلا شبح الموت بين تفاصيل عمقها ولا يفهم منها إلا البقاء لذلك استحالت الألوان في تماديها نحو السواد.
فاختيار الأبيض والأسود في الصورة يعني معيار الحقيقة وتفاصيل التعامل مع موازين البقاء بين القوة والعزل وبين الصمود والموت وتلك التفاصيل لم تترك موريتا ينتقي اللون بل مكّنته التجربة من فرض الضوء أكثر واستبعاد السواد خاصة عندما كان يحاكي الرمز العام لفكرة الشهيد في تفصيل الوجع وبشاعة الظلم.
إن المتأمل في تفاصيل العمل الفني المصور الذي كان يقدّمه موريتا ويستغني فيه عن اللغة يقف بين حدود الفكرة والموقف فيختار تعابيره من خلال الحسية التي تفرضها لغة الصورة والجدل الذي يسرد الوقائع في زوايا الفراغ والخراب والخواء والتدمير وبقايا الدخان والظلمة المتوقّعة بعد كل هذا.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections