ثقافة وفنسينما

١٢ عاما من العبودية!

بقلم: د. محمد بدوي مصطفى

Mohamed@Badawi.de

ذهبت في مساء الأمس الذي اتسم برطوبته التي تتسلل العظام إلى منتهاها. صففت السيارة في بارك امتدت أطرافه في اتساع بين الحدود السويسرية والألمانية. جعلنا نحث مشيتنا بين قطرات المطر المتساقطة بهدوء في برودتها وبين إيقاعات الكرنفال والفرق الموسيقية التي ازدانت بأقنعتها المخيفة وهندامها بألوان القزح. وصلنا دار السينما ووقفت في صف الشباك لأستلم التذاكر الذي حجزتها عبر النت. ريثما أعلمت الموظفة المتوارية خلف سياج الشباك باسمي حتى حدقتني بناظريها الزرقاوين بتفحص مثير، ثم قائلة. کنت طالبة بالجامعة وأنت كنت أستاذي. أحسست بحرارة الود التي سرت منها إلى نفسي تتخلل مساماتها واحدة تلو الأخرى. تعجبت مخفيا عجبي. شكرت لها أدبها وتحيتها التي أسعدتني. استلمت بعدها بطاقات الدخول وجلسنا في تلك القاعة ننتظر انطلاقة الفيلم.

١٢ عاما امن العبودية (بالإنجليزية: 12 Years a Slave) هو فيلم ترشح في سياق جوائز الأوسكار في الأشهر الماضية ٩ مرات على أفضل فيلم، وأفضل مخرج “لماكوين” وأفضل ممثل ل”إيجيوفور” وأفضل ممثل مساعد “لفاسبيندر” وأفضل ممثلة مساعدة ل “لنيونج” كما وحاز قبيل أيام بجوائز عديدة في الأوسكار وقبلها بجائزة القولدن قلوب لأفضل فليم دراما. كيف لا ويقف عليه الممثل البارع والمخرج المتمكن استيف ماكوين. نعم، هو فليم تاريخي ودراما مشتركة بين السينما البريطانية والأمريكية. قصته تنطوي على سيرة ذاتية تأخذك معها إلى بحور العذاب وآفاق الألم إلى اللامنتهى. سلمون نورثوب، أمريكي من أصول أفريقية. رجل أسود، ربعة القامة بعينين ثاقبتين يسحر المرء فيها العزيمة وقوة الجأش التي تتخللهما. عاش حرا بين أهله وعشيرته وكان محبوبا لدى أقاربه وأصدقائه من السود والبيض على حد سواء. ذات يوم إلتقاه في إحدى الحدائق فنانين مع أحد أقاربه وهو في طريقه لقضاء بعض الالتزامات في الدوان تاون. كان ذلك في العام ١٨٤١. حفزاه للذهاب معهما إلى مدينة واشنطن للمشاركة في حفل وليشارك لمدة أسبوعين كموسيقي بارع سمعا عنه كما زعما له. كان سلمون يجيد العزف على الكمان أيما أجادة.  تتفتق الأنغام وألحان الخلود بين أنامله السوداء وتحمل من استمع إليها في لمحة ونفس إلى عالم الحب والجمال. بعد أن انتهي الحفل الأخير حسب التعاقد، استلم “عداده” جلس إلى الرجلين في بار ليحتفي بانتهاء المهمة على أكمل وجه. شكرهما قائلا: إن “العداد” كان أكثر مما أتصور. ٤٥ دولارا … هذا كثير! شكرا لكما يا جنتلمن. وفي غضون جلستهم هذه لم يقف الرجلان في أن يصبا له الكثير الوفير من النبيذ حتى بلغ درجة من السكر والغثيان لدرجة التخدير. اضطرا أن يحملاه إلى غرفة الهوتيل ليخلد إلى الراحة. قال أحدهما للآخر قبيل أن يغادرا الغرفة: دعنا نذهب فنحن لا نستطيع أن نفعل له شيئا واختفيا عن الكاميرا.

فاق سلمون نورثوب في صباح اليوم التالي ووجد نفسه مكبلا بسلاسل وأغلال من الحديد. أنتفض، صاح صرخ، جعر ولكن لم يستطع فك الأغلال التى انطبعت آثارها على يديه وقديميه ناهيك عن اسماع صراخه وألمه لمن حوله. دلف في حيرته تلك إلى شباك الغرفة الوحيد وأبصر من وراء القبضان قبة الكابتول بواشنطن فأدرك ساعتذاك أنه لا يزال بالمدينة. وبعدها جرت ساعات الزمن محملة بالمجهول المخيف الذي سوّد تاريخ البشرية والذي كان يعرفه ويخافه خوفا تهتز له أنفاسا اهتزازا. عاش سلمون عبدا بعد أن كان رجل حرا ينعم بالحرية وطمأنية الحياة بين أسرته الصغيرة. ذاق ويلات الاستعباد في مزارع لويانا تارة في حقول القصب وتارة أخرى في حواشات القطن. ١٢ عاما عاشها زليلا حقيرا كالأنعام بل أشد قذارة. أنزلته أياد القدر بولاية لويزيانا دون أن تعرف أسرته في كل هذه المدة عنه شيئا. ترك وراءه زوجته وبنته وابنه الذين حسبوا أن الأرض قد انفتحت لتبتلع الأب لأنه لم يعود بعد مهمته في واشنطن. ظلت تساورهم الظنون وتُصحي في أنفسهم شكوكا دامغة طيلة هذه السنين. عاش هناك سلمون في نعيم، هذا الأب الذي لا يغمض عينيه قبل أن يودع صغيرته وصغيره إلى الفراش بعد أن يحكي لهما من القصص أجملها ويغني لهم من الأغنيات أعذبها ليخلدوا بعدها إلى نوم عميق. كان مسقط راسهم في ساراتوغا بسبرينقس بولاية نيويورك حيث تمت الصفقة اللعينة وحيث كان الشرك الذي سلبه حريته.

تم ترحيل سلمون ولم يحفل تجار العبيد عندما يقول لهم: أنا رجل حر وأمتلك حريتي ولي أسرتي وأولادي تركتهم في ساراتوغا. يردون عليه: أنت بلات، ذاك العبد الهارب من جورجيا وسجلك معروف لدى الشريف هناك. كف عن هذا الهراء أيها النِقر الحقير. تم ترحيلهم كالبهائم في عربة تجرها الخيول مغطاه من الخلف بقماش حقير كي لا يرى أحدا هذه الفعلة التي تنفجر من جرائها ينابيع الغضب. نيو أورلينز يبدأ فيها “بلات” حقبة أخرى من تاريخ بشريته برقم وطني آخر وبهوية أخرى لا يعرف عنها شيئا كما لا يعرف المجهول المقبل أمام نظاريه. الاسم. بلات؛ الصفة: عبد؛ التعليم: لا شيء، فالعبد لا يصلح للقراءة والكتابة. آثر له أحد المختطفين من العبيد قائلا: لا تذكر تعليمك واهتماماتك لأنك لا تسوى هنا أي شيء. ما أنت أمام أعينهم إلا نِقر حقير!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق