الفن التشكيليّثقافة وفن

النجم الثاقب

التشكيليّ طارق نصر (دنقلا – السودان)

د. محمد بدوي مصطفى

الأسماء يا سادتي إشارات للذكِّر وعبرة للفِكَّر، فعندما يولد فنان باسم «طارق»، ويأتي اسم آخر عليه «نصر»، فهل نشأت هذه السيرة بمحض الصدفة؟ إنني أعتقد اعتقادا راسخا، إن المرء يُولد وفي صحائفه آية من آي القران وهكذا طارق نصر: (والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب). تأتي الآية لتقدم مفردة معجمية ذات أصل هنديّ «الطارق» وتطرح في نفس السياق ماهيتها وتقدم الدليل بأن محتواها السيميائي (المعنويّ) هو «نجم الصباح الوضَّاء»، الذي يشع لنا عن كثب فنراه قريب لكنه بعيد بُعد الثُّريَّا، ذلكم في سياق الزمان والمكان، إذ ينبثق إلينا شعاع الأنواء من مسافات تبعد عنَّا مئات السنين الضوئية، وهل من مدكر؟ وهكذا ريشة «طارق النصر». تزداد الآية في شأنه ألقًا عندما تسترسل: (كل نفس

لمَّا عليها حافظ). وهنا نرجع إلى إن ذلكم الإبداع – ولد محفوظا، مفصّلا ومدون له – هو – في صحائفه – يتبدّى في براعة ذكاء وقَّاد، عبقرية جبّارة، اتزان وتناسق في ميزان الألوان، تواضع العباقرة الذي جعله يؤمن إيمانا عميقا أن «فوق كل ذي علم عليم»، فلم تبطره هذه العبقرية الجبّارة أن يرحل في سبيل العلم والمعارف، ليثابر دؤوبا في حيوات الفنّ بكل أشاكلها، عاشق للصورة، نحتا واختلاسا، عارف بموازنة الموروث السودانيّ واقتباسه مجرّدا في أبطال أعماله العميقة، مزدانة تارة بألوان القزح، وتاره أخرى بيضاء، سوداء مسدول مفاتنها أو صفراء، كبلح الشمال البض، وليد بزهيراته اليانعة، يتوج  قمم نخلات الصمود برونقه، وينعكس ضوءه في حنو ليزمل صفحة النيل الخالد، شريان الحياة وهو يجري، منذ الإزل عابرا كريمة، مروي ودنقلا إلى المصب.

طارق النجم، ثاقب في التفاصيل، دقيق في التوزيع المكانيّ ومُلهَمٌ إلى درجة الجنون، في موازنة المساحات وترويض الألوان لأيقوناته البطلات، التي تتجسم الأعمال في حنايا فنّه كالقيان في أدب أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.

أشكر لصديقي المبدع الخلوق الفنان الشموليّ العميق والإنسان الودود بكري خضر أنه يعرفني كل يوم ببوتقة من المبدعين من أبناء السودان الأبرار، «يَخلَعَني»، يؤرقني ويؤرق منامي لما يرسله إليّ كل عشيّة من أعمال تقف شاهدا على عالميتها وجدارتها في ارتياد آفاق عطارد الفنّ وقوتها أن تنافس أعمال أولئك الذين اتيحت لهم سبل شتّى لم تتاح لأبناء النيلين. 

كل هذا الابداع ينصبُّ في شخصية التشكيلي طارق نصر، كيف لا وقد ولد في بلاد الخير، دنقلا، نشأ شامخا شموخ نخلاتها المعطاءة، جميلا في مودته خلوقا في سماحته للناس وللفن وحريّة الرأي والجهر به، ذلك قرأته عنه وما يؤثره أصدقاؤه. فوق هذا وذاك بديع في سمفونياته اللونيّة التي سخرّتها له عبقريته الفنيّة وسجدت بعدها أمامه دون أن تنبس. وهل تصطفي العبقرية وتختار بين العالمين خبط عشواء؟ إنَّ هذا الفن العالمي الذي برأه طارق بريشته الممزوجة بحضارة أهل السودان، شموخ ثوراته، ورُطب الشمال بعلياء النِخَال (جمع موّلد ل»نخلة») ومثابرة الفحال بألوان القزح ليسه من العدم، لكنّه عند دراسة ودأب وتفاني ونكران ذات منقطة النظير.

بزخ النجم الثاقب في أول مولد له بعام 196٤، وتتلمذ على أيدي أساتيذ كبار يشار إليهم بالبنان بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية بمعهد الكليات التكنولوجية بعاصمة النيلين، الخرطوم. اختار إحدى أوعر التخصصات، ودورب الفنّ جُلُّها وعرة: التلوين. واتاحت له عبقريته أن يرتاد أعماق فنّ الكاريكتير بشتى الصحف العربية، ومن ثمة عمل في مجال التصميم الفني للصحف والمجلات وبعدها درّب نفسه على العمل في مجال الرسم الرقمي بالحاسوب. له مؤلفات عديدة في مجلات الأطفال. لم يكتفِ بذلك فكان توّاقا لعمل المعارض الفرديّة والجماعية والمشاركة في العديد من الورش الفنيّة ونيل الجوائز، فحاز على جائزة «نوما» باليابان عن قصة من تراث قبائل الدينكا (جنوب السودان).

هذا النجم الثاقب إبداع فوق العادة وسوف تتحدث عنه المحافل العالمية وتشير إليه بالبنان كما كانت الحال في شأن أستاذه الصلحي. كل الأمنيات بالتفوق والتقدم والازدهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق