
الترجمة وإشكالات التعددية الثقافية (1)
عن مداخلة الدكتور “عبد السلام بنعبد العالي”
خديجة منصور – بتصرف
ارتبط مفهوم التعدد ببابل بمفهومات البلبلة وسوء التفاهم والتشتت واللعنة الإلهية، هل التعدد الثقافي واللغوي هل هو بالفعل عقاب ولعنة؟ وفي هذه الحال ماذا سيكون دور الترجمة؟
الذين رأوا في الأمر لعنة اعتبروا أن الترجمة سعي وراء التقريب فيما بين اللغات للمي الشتات واسترجاع الوحدة ومقاومة الاختلاف والقضاء على التعدد أو على الأقل الخفيف من حدته، يزعم المترجم هنا إعادة بناء برج بابل، ومحاولة الارتقاء نحو نوع من اللغة الأصلية والكلام الأرقى الذي يكفي التحدث به لقول الحق. يراود المترجم هنا حلم بكون اللغات جميعها، تشير إلى الواقع نفسه بأنحاء متباينة، وكأن ما به يحيل بفعل الترجمة إلى لغات عليا لعلها الانسجام أو الوحدة المتكاملة بين كل تلك الأنحاء أم الذين رأوا عكس هذا فنظروا إلى بابل على أنها رحمة وحظ سعيد une chance اعتبروا أن اختلاف اللغات وتعددها هو ما يبرر الاهتمام بالترجمة ويشرطه، وأن الترجمة لا حياة لها إلا في خضم هذا التعدد من هؤلاء على سبيل المثال”أومبرتو إكو umberto eco” الذي يرى بأن لغة أوربا التي لم ترفع قط إلى الآن شعار التوحيد اللغوي أن لغتها هي الترجمة، فترجمة من هذا المنظور هي لغة التعدد إنها ترعى الاختلاف وترسي مفهوم مغاير عن الوحدة بعيدا عن أن يكون مجرد مقابل لتعدد ومجرد لاستعادة لوحدة أصلية لكي يغدو رعاية التعدد داخل الوحدة ذاتها لن يهمنا هنا الموقف الأول ليس لأنه موقف متداول يطرح الترجمة في سياق أخلاقي، فينظر إليها على أنها محاولة يائسة لاسترجاع وحدة أصلية وإنما لكونه ينطلق من مفهوم “ميتافيزيقي” عن التعدد فلا يميزه عن مفهوم الكثرة، ويجعله الضد المقابل لتوحيد.
قبل تعرضي لبسط الموقف الثاني إذن يبدو علينا أولا بتحديد مفهوم التعددي ذاته. إن المد الفلسفي الذي طور هذا المفهوم هو “المد التجريبي” وخصوصا عند الفيلسوف “دافيد هيوم David Hume” كما أوضح ذلك “جيل دلوز Gille Deleuze” في كتابه الأساس “التجريبية والذاتية”،ليس من المناسب هنا استعراض تحليلات “جيل دلوز Gille Deleuze” يكفي أن نستخلص خلاصا ته الأساسية الكائنات في المنظور التجريبي علائق و بينيات لا تحيل على أطرافها المكونة، الوجود الفعلي هو للروابط مكان الفيلسوف الفرنسي “جون فال Jean Wahlيعبر عنه بقوله “الوجود للمعيات وليس للمهيات، العلاقة هي الأصل في الذات وليس في العكس، العلائق هي ما يولد العناصر وليست هي من يتولد بين العناصر هناك أولوية انطولوجيا للعلاقة و البينيات على الأطراف والحدود لاشيء يتحقق بذاته كل عنصر يتولد عما يتجاوزه لا وجود لكل موحد كل ما يوجد هو انفتاح اللانهائي وحركة التداخل، والتعدد التي لا تنقطع ها هنا يغدو الكائن ترابطا ظرفيا حركيا لا يخدع لأي مبدأ قار وتصبح الوحدة مفهوما ثانويا، أعني يأتي ثانية مادام توليفا بين الأطراف لن يعود الاختيار مطروحا بين الوحدة ونفيها وإنما بين وحدة مفتوحة على إمكانيات متعددة وأخرى محددة تحديدا أزليا، ستغدو الوحدة هنا جمع يقال على المفرد إن على حد قول “دلوز” تركيب جغرافي وليس نشأة تاريخية، لن تعود المسألة الأساس إذن تحرير المتعدد وإنما توجيه الفكر نحو مفهوم متجدد للواحد كما لن يعود التعدد هو ما يقابل الوحدة وإنما ما يقابل الكثرة، الكثرة تقوم على مفهوم الوحدة الحسابي وتنحل إلى ” تعداد” إنها كثرة من الوحدات أما التعددية فهي تروم خلخلت مفهوم الوحدة ذاته وتفكيك الثنائي وحدة التعدد، الكثرة خارجية أم التعددية فهي تقيم داخل الوحدة كي تجعل الاتصال ينطوي على الانفصال، و الوحدة تشمل حركة وتضم أطرافا ليست علاقة الوحدة بالتعدد كعلاقة الكل بالأجزاء أو المجموع بمكوناته وإنما كعلاقة الهوية بالاختلاف ليست التعددية والحالة هذه هي كثرة الوحدات وإنما هي تعدد الاختلافات و بهذا تصير الوحدة من الحيوية بحيث تستطيع أن تستوعب التعدد ويصبح التعدد مفهوما باطنيا يصدع الوحدة ويضم أطرافها، ويغدو إنسان التعددية ليس ذاك الذي يتكلم عدة لغات وإنما ذلك الكائن السندبادي الذي يوجد بين لغات بين ثقافات معنى ذلك أننا لن نكون في عالم مشترك لن نكون معا بلغة واحدة، التعدد اللغوي هو السبيل وحده إلى الوحدة المشتركة.
ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذا التعدد ليس تساكن بين عدة أشكال للأحادية اللغوية “كتب جيل دلوز Gille Deleuze ” “إنا علينا أن نكون مزدوجي اللغة حتى داخل لغتنا ذاتها،علينا أن نحوز لغة أقلية داخل لغتنا نفسها،علينا أن نستخدم لغتنا استخداما أقليا داخل لغتنا نفسها،علينا أنستخدم لغتنا نفسها استخدام أقليا، ليست التعددية اللغوية حيازة نظم عديدة يكون كل واحد منها متجانس في ذاته بل هي أولا خط الهروب والتنويع الذي يمس كل نظام مانع إياه من التجانس، لا أن نتكلم “كارلاندي” أو”روماني” بلغة أخرى سوى لغتنا بل بالعكس أن نتكلم لغتنا نفسها كأجنبي، في هذا السياق يريد “دلوز” قولت بروست Proustالمشهورة” إن المؤلفات الرائعة تبدوا وكأنها كتبت بلغة أجنبية، هذا المفهوم عن التعددية اللغوية سرعان ما يطال الكائن ذاته ذلك أن تعدد اللغات كما أتبث “هومبولت Humboldt” ليس هو تعدد الأسماء والتغييرات والتعبيرات التي نعبر بيها عن شيء، إنما هو تعدد الأشياء نفسها، هناك من الأشياء بقدر ما تشكلها كل لغة على حدى، تعدد اللغات وتعدد الثقافات وتعدد المنظورات إلى العالم تعدد أشياء العالم.