ثقافة وفنقصة قصيرة

إياكم والضحك!

إيثار يوسف

أخذت الظنون والهواجس تتشابك في رأسي، القلق يعصف بأشيائي، ودون أسباب موضوعية. أتلفت يمنة ويسرى.  وحسام أمامي يرمقني من طرف خفي.  أخذت أعبث بالقلم أمامي وأحاول أن أرفع وجهي إليه.  لكن. لا فائدة!  شيء ضخم يكبل رأسي ويجبره علي التنكيس. حالة غريبة أحسها! هو حسام.  وهذا مكتبي.  وهذه الأوراق والأقلام وخزينة الملفات.  ثم جهاز التلفون.  ومقعدي ومقعده.  ما الجديد إذن؟

ألتقيه كل صباح وبنفس الملامح. الوجه المتعب. والأذنين البارزتين. وذقنه غير الحليق. نفس عيونه المستديرة اللامعة.  وهي تحاكي عيني طفل!  كل الأشياء هي، هي.  لكن أنا المختلفة على ما يبدو!

لاحظ الآن ترددي وارتباكي فسألني وعينيه تلاحق وجهي بدقة، حتى أنني أحسست بالحصار !

سألني: 

– ماذا بك؟  ومنذ حضورك للآن لم أسمع لك صوتاً؟!   ثم رأسك  لماذا هو كذلك اليوم منكساً.  ولم أتعوده إلا مناطحاً للهواء،  سارقاً مني لحظة التوقّع والدهشة.

أجبت بفتور مفتعل:

– لا شيء فقط إرهاق العمل.  ويبدو أنني لم أنم جيداً ليلة أمس.  قلت ذلك لأبعد تركيزه عن وجهي ولأشغله بالكلام عن التحديق! 

أدركت خطأي  حينما ألقى قلمه وأغلق دفتر الرسم أمامه،  ثم واجهني بكلياته في تحفز غريب.

أحسست بالخوف. وصدقوني لو كان بامكاني الهرب لأسرعت ألوذ بأول باب منه!  لكن كيف؟!  وحجرة المكتب موصدة علي أنفاسي.

أعاد اسئلته بتركيز أكثر على وجهي وبصوت عميق حاسم. قال: 

– ارفعي وجهك أولاً. ثم أجيبيني على اسئلتي.  وأظنك على علم تام بمقدرتي على قراءتك. احذرك.  إياك والكذب. إياك والمراوغة.  كنت  وحسام  وحتى تلك اللحظة زميلي عمل. بيننا فهم عميق لشخصية كل منا للآخر ولو كنت أؤمن بما يسمى صداقة بين رجل وإمرأة  لقلت نحن أصدقاء.  لكن.  دعوني في المهم. حسام  تشكيلي.  يعمل معنا في دار نشر عامة،  يصمم إلستريشنات الكتب وأغلفتها. إضافة إلى تفرغه الجزئي لأعماله الخاصة!

وأنا. كاتبة. أو صحفية. أو أديبة.  سموني ما شئتم. إلا أنني والقلم رفيقي درب مليء بالأرق والهواجس.  نُخرج مجلة ثقافية.  مناصفة بيننا وبعض الزملاء.  شاءت لنا الأقدار أن نتلازم في هذه الحجرة المستطيلة الضيقة. هو أتى بعدي.  سبقته في الالتحاق بالعمل.  أيامنا السابقة كانت تمضي وكل مشغول بما لديه من عمل.  وحينما نفرغ أو نمل كان يجاذبني أطراف أحاديث عامة في كل شيء،  بعيداً عن الخصوصيات.  أدركت فهمه وتحفظه في ذات الآن. فأكبرته  وهو التشكيلي المنتمي لمجتمع الإنفلات! المهم علاقتنا أضحت تكبر وتستطيل وتتضخم.  لكنها لم تخرج عن نطاق الزمالة المُحضة ولم تتجاوز حواجز الأعراف الاجتماعية بعاديتها واتزانها.  وجدته في كثير من الأحيان قريباً مني بعقليته وتفهمه وعمقه.  كنت أكتب مواضيع عن القهر والكبت. عن معاناتنا معشر النساء.  وكان يقرأها  ويصوبني.  ينتقدني لدرجة التجريح.  لكنه يحترم رأيي ويقّر معظمه على الأقل!  في مناسبات قليلة كنا نرافق بعضنا بعضاً. كافتتاح فرع لدار نشرنا.  وحضور معرض لأعماله الفنية  بفندق ما!  وهكذا، نتحدث.   نتجادل.  نمل فنثرثر !

كان يجيد العزف والغناء.   والضرب على كل الأوتار  لكن بحذر ويقظة.   لقد أجبرني علي احترامه. احتراماً ما كنت على استعداد لمنحه لرجل قط.  احترمه لدرجة التقدير! مثل احترامي لأبي بل لا أبالغ إن قلت أكثر !  فهو حسام. وأبي. هو أبي.

لنترك التفاصيل الآن لوقت لاحق.  صدقوني لم أعرف نفسي في هذا الموقف.  ولم أفهمها أبداً!  كنت كمن يخضع لقوة غريبة،  تكبل وعيه وتجبره على اتخاذ مواقف مسبقة.  لأشياء مبهمة.  متوترة أنا.  أعاني تضارب عنيف في الافكار .  وحسام  يحاصرني  بغابة من الأسئلة!  كيف الجواب؟  وأنا لا أعرف كنهه ما أعاني!

رفعت له وجها محرجا وعينين ضائعتين،  كانت عيناي تطرفان بعصبية ما استطعت إيقافها، ويداي ترتجفان دون سبب وجيه!  أخذت في التلاعب بمقبض الدرج على مكتبي كي أخفف توتر يداي وتشنجها.  أعرف أنه يلاحظ كل ذلك.  ويفهم كل ذلك!  إذن لماذا لا يريحني ويمضي؟!  قلت بصوت حاولت جل جهدي كي يكون ثابتاً هادئاً.  لكنه ورغماً عني خرج لاهثاً مبحوحاً  كصوت غريق يلتمس النجاة.

قلت:

– حسام. أظنك تستوعب أشيائي أكثر مني!  حقيقة لا أعرف مم أشكو. لكنني، أحس الآن إحساساً غريباً،  مبهماً تماماً.  أحس، أحس!  وتلعثمت.   فخفض عيناه وأخذ يعبث بقلمه على الدفتر . وجدتها سانحة للهرب وترتيب الفكر .  لكنه عاجلني بصوته العميق الواثق:

– يا سارة أعرف تماماً ما تودين قوله. أفهم حداثة تجربتك.  أعلم براءة دواخلك.  وأصدق كل شيء فيك!

– سارة.  هل تعرفين عني أكثر من اسمي؟

أجبت وقد أدهشتني قدرته علي المباغتة واتخاذه موقف المجيب بدلاً عن المتسائل.  قلت:

– لم تكن هناك أوقات لتحدثني عنك وقد احترمت رغبتك في الاحتفاظ بخصوصياتك لنفسك !

قال: 

-احترم وعيك.  ولكن، هانذا أريق ماء التصنع وأضع عني قناع التحفظ.  ألاقيك الآن بوجهي، بندوبي كلها،  بملامحي خالية تماماً من مساحيق التجمل والنفاق!  صدقيني. مللت كل ذلك.

  – يا سارة. أنا رجل مثل كل رجال قصصك، رجل لا يستحق الثقة. ماحق متلاعب، سادي العواطف. لكنني متزن. لامبادئ لي. نعم . أعيش لحظتي من أجل لحظتي وبعدها الطوفان!  النساء عندي زوارق لمتعة، أغرقها وأزيحها عن دربي وقتما أحصل على ما أريد!  وصدقيني للآن لم أجد من تخرج عن هذه المنطقة مع استثناء وحيد.

لم اصدقه. أحسسته يتحدث عن رجل آخر . يتحدث عن مسخ مشوه.  عانيته طويلاً .. وكرهته بكل ثقلي. فصرخت فيه وأنا أرتجف. لا اصدقك قط. تحاول الآن تشويه أنموذجي الرائع لرجل احترمه جداً.  لماذا تفعل ذلك؟ 

وماذا تبتغي من وراء كلامك هذا؟

أجابني بنفس هدوئه، وطول باله:

– أنا.   أريدك أن تعرفي حسّام الحقيقي.  وليس حسام الممنتج.  وهاهو ذا وجهي،  صورة صغيرة منه. جانباً واحداً فقط.  ودون تفاصيل.  من أجلك أيضاً أستطيع أن اعترف بها وعلى الملأ!

أجبت باستنكار:

– من أجلي؟! 

– من أجلي تحطم آلهة النقاء في عالمي؟! 

– من أجلي تدمر أمثولتي الرائعة؟! 

هممت بالمغادرة وأخذت ألملم أشيائي عن المكتب بعصبية.  لكنه فاجأني بقوله:

– سارة.  أرجوك!

– أنت أول إحساس حقيقي لي دون مطامع!

-أحبك.  تماماً!

سمعت كلامه بأذني قلبي وأنا أرتعد لا أعرف للمفاجأة أم لإحساس آخر.

  المهم،  سكنت حركتي تماما وتملكني شعور سعيد.  لكنه حزين.  وتحيط به خيوط الرفض.  إذن مثلهم هو.  مليء بجميع سقطاتهم التي لا تغتفر.  كم أكرههم!   وهو.  هل اكرهه؟!  أخذت أتساءل:

– لم؟!

– لأني أريده رجلاً رمز!  رجل أمثولة!  شيء ليس مثله شيء!

وها هو ذا.  وجه قميء، وماض حافل بالأخطاء والفوادح.  بادرني مرة أخرى  وبنفس طريقته في الكلام:

– سارة. أنتي خيالية في تفكيرك لدرجة العقد.  صدقيني. كاذب هو من يقول أنه بلا سقطات.  نحن بشر والمسيح عليه السلام قال :

– من يكن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر! والبشر خطاؤون.  وخير الخطائين التوابون. وهذا نص صريح في السنة المطهرة وبعض ايات القران الكريم.

– ما رأيك؟!

قلت:

– أتريد اقناعي بتوبتك وإنصلاحك؟!

  – ومن يضمن لي ألا ألقى مصير من سبقنني في حياتك؟!

قال: 

– يا سارة أنا تعبت ولم تعد لدي المقدرة ولا الرغبة في التلاعب والتسلية!  صدقيني تتوق نفسي لشيء صادق.  لشيء نقي.  مغسول بالماء والبرد والثلج،  ليطفئ رهقي، ليعيد توازني وصدقي!  أتمنى أن أعيش بوجهي الحقيقي. وأتمنى من يتقبلني به هكذا، هيا أعلني التحدي والمصادمة كي تعيديني إنسان !

ترددت.  مبادئي تقول لا.  ثوابتي ومنهجي يقول لا.  لكن!

أنا أريده دون أخطاء.  وهل يوجد بشر دون اخطاء؟!

إذن لماذا لا أنسي أخطاءه أيضاً؟!

  لكن!  هو رجل.  ومثلهم.

  أأوليه ثقتي بعد كل تلك الصدمات؟!

  أيستحق ثقتي؟

صراع ضخم!  معركة حامية الوطيس بداخلي.  حسمها صوت التلفون علي مكتبي، رفعت السماعة بآلية ودون انتباه.  أتاني صوت نسائي حالم!

– أريد حسام إذا سمحتي.

قلت: 

– من معي؟

قالت وصوتها يتكسر نعومة:

– قولي له زوجته!

ملحوظة …

إياكم والضحك،  لأنها كانت زوجته الثانية في الترتيب !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق