ثقافة وفنروايات

“أكتـب إليـك من دمشـق” للكاتب محمود عبد الغني

رواية المحنة السورية بين الناسخ القديـم والروائي المعاصـر

د.  أسامة الصغير

استهـلال:

عديدة هي المحاولات الروائية التي تلتزم جانب التفاعل مع راهن الأحداث والوقائع القائمة، سيما في فترات البؤر المشتعلة بالحروب الطاحنة والوقائع المُركبة التي تمور وتفور بما يجعل مهمة الـتناول والاقتراب عسيرة محفوفة بالمخاطر. أما الروائي المغربي محمود عبد الغني، فقد سلك طريقا آخر وابتكر لنفسه زاوية التقاط مخالفِة وخلاّقة للتعاطي مع الأزمة السورية والمشرقية عامة عبر استنساخ صور هذا الواقع في الجذر التاريخي، بابتداع رواية مُعتّقة بالماضي وأحداثه، كأنه تقهقرَ خطوتين إلى وراء التاريخ في أفق إنجاز خطوة إلى أمام المستقبل لفهم وكشف الأزمة الحالكة في راهنها. بذلك فهو يدنو من موضوع سردي عربي قُحّ في مناخ بلاغي أصيل. إنها بعبارة السارد حكايةٌ ” موجزة مهما اتسعت وامتدت كلماتها وصفحاتها ” ص9. عبر هذه الحكاية يضعنا الروائي الناسخ في صلب أدب الرحلة، ويطير بنا على جناح مخيلته من مدينة فاس المغربية إبان القرن الثاني عشر إلى دمشق سوريا وبغداد العراق، قافلا إلى مدينته. إذ بعد عودته يتشوّق الناس ليحكي لهم عن مدينتين يسمعون بهما كثيرا، لتكون تلك أسباب التنزيل الروائي. إذن فالأوبة إلى الماضي فضاءً ولغةً وموضوعاتٍ جاء اختيارا جماليا واعيا، له مقصدية احترازية وغاية جمالية فريدة.

أفانيـن الاستطـراد وتقنيـات الكتابـة البصـرية

أثناء قراءة  نص الكتابة من دمشق، تتبدى أمامنا مهارة  الكتابة بتقنية الضوء/ النور والظل وحركتهما في التداني والثنائي داخل بنية النص، ذلك أن التيمة الأبرز في الرواية هي مهنة النسخ والوراقة، وهي العملية/ المهنة التي تخضع لدورة الضوء والظلمة، حيث إن تصميم نوافذ وكوى بيوت النُّساخ  وحوانيتهم كان لا بد أن يراعي هذه التقنية الفنية، بذلك فالروائي كان حريصا ودقيقا في تصميم محكياته وفق هذا النظام البصري البديع، مع المناوبة بين الفضاء الداخلي، يُمثله البيت/ دكان الوراقة والفضاء الخارجي يُمثله الشارع / الزقاق. فكان كما لو أنه يرسم لوحة سردية لحياة مهنة النسخ والوراقة في القرن 12، في ذلك يقول السارد الرئيس: ” بقيت أحتمي بالضلال من الشمس ” ص 61. كما في جانب آخر نجد أن الغرف تكون ” مضاءة أحسن ما تكون الإضاءة، والمظلم منها جزء يسير ” ص 131. وقد لعبت هذه الوسيلة الجمالية دورا وظيفيا في تطور كثير من البؤر السردية، ربما كان أبرزها انسحاب الناسخ عبد الرحمان من مشروع النسخ ببيت صاحب الرحلة جرّاء أزمة ” ورقة ضوء القمر “، تلك التي طلب فيها المُضيف من ضيفه أن يستغني عن ضوء القنديل والكتابة على ضوء القمر، مما تسبب في زعله وانسحابه من أطوار الرواية والرحلة البعيدة إلى دمشق.

في بعد آخر، نجد السارد يُحرّض على متابعة اللقاء واستمرار عملية التلقي وحثّ القارئ على إعمال الخيال والمشاركة في بناء الأحداث وتوليد المحكي عبر طرح السؤال في كثير من المواقف والأحوال، والتوكؤ على أسلوب الاستطراد بشكل لافت ومكين، خصوصا في أحوال الوراقين والنساخ وعالم المُحَدّثين، فندخل لعلبة العُلب السردية سارحين في محنة وأحوال المهنة والمهنيين وما يرتبط بها من وقائع وأحداث تاريخية متداخلة، بما ” يقتضي جهدا ومهارة لغوية ” ص 67، لا يدركهما إلا خبير بالتراث اللغوي والنقدي عليم. هذا الاختيار الخطابي في المبنى اللغوي ينسجم بشكل وثيق مع الرهان الروائي الناهض على استلهام معنى وروح الكتابة التراثية التي كان الاستطراد أحد مقوماتها. هذا الوفاء للاستطراد، وتفريع المحكيات، شكّل وسيلة لدمقرطة الحكي وتطعيم الأصوات السردية عندما يتسلم الكلامَ سُرّاد جُلّهم ممن رافقهم الناسخ الفاسي وجَمَعتهُ بهم أقدار رحلة النسخ إلى دمشق. وحري بنا القول إنه سرد يتضافر فيه التخيلي بالمرجعي التراثي عبر مراوحة بين حواضر فاس ودمشق والعراق والمروق بينها بمرونة وحذق، مراوحة كان لها أن تجعل ” دمشق وفاس في بوتقة من التوأمة النادرة ” ص 228

ترهيـن تاريخ الصـراع السـوري

بعكس أشكال التخييل التاريخي في أغلب نماذجها، فالروائي في هذا العمل لا يعود إلى التاريخ بمراوحة بينه والحاضر، بل هو فضاء سردي تاريخي تام، مما يضعنا بداهة أمام الصعاب والتحديات الكبرى لمثل هذه المغامرة الروائية التي تشترط الوعي والإلمام بلغة وثقافة ومجتمع وبيئة الفترة التاريخية المحدَّدة هنا في القرن الثاني عشر، سيما في جغرافيا غير التي ينتمي إليها الكاتب المرجعي، إذ هي        ” قصص أيام عصيبة عاشها ناسخ من فاس في الشام والعراق ” ص 18، وما يزيد خلطة  هذه القصص الروائية صعوبة أنها تتناول شخصيات حقيقية عاشت أحداثا حقيقية، بما يستلزم الاطلاع على سِيَر النُّسّاخ والمؤلفين التراثيين وعالم الوراقة والنسخ في الثقافة العربية.

على مستوى الهندسة الفنية، نجد أن المقول الروائي أو حكاية رحلة النسخ، تبدأ مع الفصل الثاني بعد أن يضعنا الفصلُ الأول فيما يشبه التمهيد للمتلقي من خلال تحديد الحكاية الإطار، حيث نستشفِّه بحثا عن شكل مغاير لبناء وطرح الرواية والتريث في التناول الروائي الآني للأزمة السورية، كأن التاريخ الفني لا يمكن كتابته والأحداثُ تغلي، بذلك جاء التفاعل مع القضية عبر استلهام نموذجها الجذري في تاريخ الصراع الدمشقي/ المشرقي إبان الماضي القروسطي. بهذا، تكون الرحلة للمشاركة في العمل التاريخي لنسخ ” تاريخ دمشق”، والولع بالشخصية العلمية والأخلاقية للمؤرخ والعلاّمة الدمشقي الحافظ ابن عساكر، اختلاقا جماليا واختيارا فنيا استراتيجيا، ليضعنا الكاتب في قلب محنة  سوريا / دمشق، وكأن تاريخ دمشق هو اللحظة الحالية وما يستتبعها من تدوين، إذ المشاركة في تدوين ونسخ تاريخ دمشق هي المهمة التي لم يشارك فيها الناسخ الفاسي، بعد أن تنهَّد في كمد واستنكار ” أي تاريخ أنسخ فيما المدن والبلدات تمحى كأنها حبر مكتوب على جلود الأبقار ” ص 220، ولكن الروائي المغربي ابن مدينة خريبكة قد ساهم فيها ودوّنَ منها عوض ثمانية مجلدات، هذه الرواية التي كتبها إلينا من  دمشق، كأن لسان حاله يقول ” نعمل ونكتب تاريخا لم يُكتب بعد ” ص 232.   

       ثم إنها كانت تخريجة فنية مصقولة أن يلجأ الناسخُ المغربي إلى بغداد رفقة أبو سنان العراقي، لينعطف الترهين السردي إلى أزمة الصراع والفتنة في العراق، فبينما تنتهي به الأحداث متوحدا هناك في بغداد وقد بدأت فيها بوادر البلبلة / بابل، يتوجس الساردُ ويستغرب: ” أسلاح في بلاد العقل والعلم؟ ” 241، ويضيف ” الحروب والنزاعات ستبقى لقرون قادمة إلى أن تستوي الكائنات. ستقع كما وقعت في ذلك القرن المرعب، ولنفس الأسباب المتداخلة والمختلطة. لكل ذلك، أنا شديد الحزن على الناس في القرون القادمة. ص 12. وهذا من باب الإيهام الجمالي، ما يُفترض أن يكون قد أنذر وتنبأ به الناسخ/ الكاتب المغربي منذ قرون خَلَتْ.

محنـة الناسـخ محنــة الكاتب

في ذكر وعرض حيوات النُّسَاخ ومهنة النسخ وما يرتبط بها من الوراقة، نستشعر الكاتبَ يعرض حيوات الكُتاب ومحنة سراديب الكتابة، طقوسها الفنية وهواجسها النفسية وجوانب الوضعية المادية والاجتماعية وغيرها، كأن الناسخ في الماضي ظْلٌّ للكاتب في الحاضر. من خلال ذلك التوصيف، فالكاتب يتخطّفُ القارئَ من حاضره ليُعيّشه في ماضي دمشق وفاس، ويفتح أروقة العلاقات الثقافية الحضارية بين حاضرة فاس ودمشق وبغداد، والبعثات الطلابية والعلمية بينها. وتتأكد الرغبة في عرض محنة الكاتب عندما يقصد الورّاقُ المفلسُ أبو موسى صديقَه الناسخَ الفاسي طلبا لوساطته في الحصول على فرصة لنسخ مجلد من كتاب ” الغازي والمغازي “، تحقيقا لهذا الطلب يقصد هذا الأخيرُ وراقة صاحبه ابن صقر الأنصاري البلنسي، فيعرف منه مصادفةً خبرَ بحث ابن عساكر عن ناسخ مغربي ليعمل ضمن فريق نُسّاخ على نقل عمله التأريخي الضخم. ونحن ” نقلب تواريخ وجغرافيات الورق والكاغد ” ص217، نكون أمام قدرة بديعة على استلهام الحكاية واستنطاق التاريخ ومصادر التراث وتطويع المقتطفات لترهينها وإدماجها سرديا بشكل وظيفي لافت في بناء الخطاب الفني، لتبدو كأنها مقاطع من حوارات مرجعية حدثت فعلا.

فـي آخـر القـول.

  نستعينُ باستراتيجية الروائي محمود عبد الغني، ونفتح السؤال: هل يكون ولعُ الناسخ بالمشاركة في نسخ „ تاريخ دمشق ” على الكاغد القديم، هو ذاته ولعُ الكاتب بكتابة هذه الرواية ونسْخها من مخيلته على الورق المعاصر؟ إنه بحق عملٌ روائي بحثي استقصائي استحدث موضوعة نادرة، وأحدث نقلة تخييلية بديعة في المدونة الروائية المغربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق