ثقافة وفنروايات

رسام الأرواح عندما يتجلى الفن والجمال

من خلال بؤس العمال ونضالهم

عبد الحي كريط كاتب وباحث مغربي

رسام الأرواح أو رسام النفوس el pintor de almas من الروائع الأدبية التاريخية للكاتب والمحامي الكتلاني الإسباني إلديفونسو فالكونس صاحب رائعة كاتدرائية البحر ويد فاطمة، يفاجئنا فالكونس هذه المرة، برواية جديدة وبقصة حب وعشق قوية وشغف بالفن والثورات الاجتماعية ذات الطابع الأممي في برشلونة الحداثية عاصمة إقليم كتالونيا 

في آخر أعماله، يدفع فالكونيس تقديرًا جديدًا لمدينته برشلونة، ليأخذنا إلى فترة تاريخية أخرى مثيرة للاهتمام ببرشلونة الحداثية في فجر القرن العشرين، حيث انتشرت الحركات الأناركية – (الأناركية كنظرية وفكر سياسي و كحركة اجتماعية تبلورت لأول مرة فى النصف الثانى للقرن التاسع عشر فى إطار نشأة الحركات العمالية و الاشتراكية. واتخذ بعض أوائل مفكريها مسمى الأناركية بمعنى اللاسلطوية إذ دعوا إلى أن ينظم المجتمع شؤونه ذاتيا دون تسلط لفرد أو جماعة على مقدرات وحياة غيرهم.)

وسيروي فالكونس مغامرات دالماو، رسام شاب من أصل متواضع، بفضل موهبته، سيشق طريقه في مجتمع مليء بالتناقضات.

ولقد أضحى فالكونس لبنة أساسية في الروايات التاريخية وفي الأدب الهيسبانو الحديث حيث حققت كتبه أفضل نسبة للمبيعات بالعالم وبمستوى قياسي وكانت “كاتدرائية البحر” والتي هي امتداد لرواية يد فاطمة، ظاهرة نشر غير مسبوقة عبرت الحدود والبلدان وفازت بجوائز مهمة ومرموقة 

 وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على أحدث روايته “رسام الأرواح „ وسنكتفي فقط بملخص مقتضب حول أهم شخصيات الرواية وأبرز أحداثها من منظور تاريخ الفن والتي تدور في مجتمع أوائل القرن العشرين ببرشلونة من خلال بعض الشخصيات القوية والمؤثرة التي رسمها فالكونس في روايته والتي تقع بين جانبي الطبقة العمالية والطبقة البرجوازية وبعدها سننتقل إلى تقييم الرواية.

أحداث الرواية 

الرواية تحتوي على جميع عناصر الحبكة الروائية في هذا النوع من الروايات التاريخية ،وقت مضطرب يتسم بقلاقل واحداث اجتماعية وسياسية ، وشخصيات ذات مُثل وقيم وهي تسبح ضد التيار الاجتماعي الذي رسمته لها السلطة  وشخصيات الرواية التي تتشابك مع الواقع السياسي والاجتماعي للحظة من الزمن وهم يحاولون التغلب على نجاحاتهم وإخفاقاتهم لوضعها على سكة الطموح والنجاح  ، إنه الصراع من أجل حقوق العمال وصراعهم مع البرجوازية والكنيسة بسبب الاختلافات الكبيرة بين الطبقتين الاجتماعيتين سنتعرف أيضًا على الوجه الفني والثقافي ببرشلونة  وأهم أعمال الحداثة التي رافقتها في هذه الفترة وكيف تقوم المدينة بتحويل روحها المعماري والهندسي وإثراء نفسها على الرغم من بؤس الطبقة العاملة وهي فترة من اللامبالاة والنزاعات والإضرابات التي بدأت من عام 1902 إلى حدود 1932 لأكثر الأشخاص حرمانًا من حقوقهم  والتي تتناقض مع غنى الطرق الرائعة وبعض المباني التي تشكلت رموز وصول الحداثة.

تبدأ القصة في برشلونة خلال السنة الأولى من القرن العشرين (Dalmau Sala) دالماو هو شاب ذو مبادئ وأفكار راسخة يعمل كرسام في ورشة للخزف وأعدم والده بسبب معتقداته وأفكاره وهي نفس تلك الأفكار التي غرسها في ابنه دالماو وايضا شقيقته، مونتسيرات والتي يعيش معها تمامًا مثل صديقته إيما التي يتشارك معها نفس المعتقدات والأفكار. 

رب عمله  مانويل بيلو رجل برجوازي و كاثوليكي  محافظ  سيحاول جذب دالماو  إلى عالمه والتي  ستكون فرصة مواتية لدالماو لتفجير طاقاته الإبداعية و ستتاح لحياته فرص أكبر وأفضل في هذا المجتمع البورجوازي بالرغم من أنه إبن الثائر الأناركي الذي تم إعدامه بسبب معارضته للنظام الاجتماعي السائد آنذاك وهذا ماجعل دالماو بعيش في صراع داخلي  بين عالمين مختلفين فهو ينتمي إلى أسرة معروفة عنها أن والده أعدم بسبب مبادئه ومعقداته وإيما الفتاة اليتيمة  التي أحبها حبا سرمديا ، كلاهما مدافعون عن كفاح العمال بطريقة شرسة أقرب إلى المحاربين،  وعمله في ورشة الخزف تحت ظل بورجوازي مكنه من الدخول إلى بيئة ستكون البداية لتفتق موهبته الفنية وبهذه الطريقة ستغريه العروض المقدمة من المجتمع البروجوازي الراغبة في شراء أعماله وضميره أيضا وسيتعين على دالماو أن يجد طريقه الحقيقي كفنان ورجل ويبتعد عن السهرات والليالي الملاح التي ينظمها المجتمع المخملي والاهتمام بحب فتاته ومحبوبته إيما المرأة الحديدية والشجاعة التي تقف بوجه النظام والتي كانت بالنسبة لدالماو بلسما روحيا ﻷغوار نفسه المعذبة التي تعيش بوجهين وكانت بمثابة المحرك الأساسي لتلك اللوحات التي تنبع من خياله ويرتبها ويترجمها على القماش الأبيض وهي تجلي للأرواح البائسة والمعذبة التي تجوب شوارع برشلونة التي تحركها نزعات الثورة والتمرد ضد النظام البورجوازي ، وأعماله الفنية التي ستكون مطلوبة من قبل المهندسين المعماريين الذين سيعتمدون عليها في التخطيط الجمالي لبعض أهم مباني برشلونة .

ومع تسارع الأحداث وتوالدها بالرواية من خلال سلسلة من المواضيع الصعبة للغاية في ذلك الوقت يترجم الرسام دالماو آلام الناس من الطبقة العمالية ومن مختلف الأعمار برجالهم ونسائهم كبيرهم وصغيرهم يترجم أرواحهم المعذبة من خلال ريشته وأعماله الفنية التي عبرت عن معاناتهم  أما محبوبته إيما فهي لازالت تقود المظاهرات والاضرابات ضد النظام البورجوازي المتحالف مع الكنيسة من أجل  تحسين حقوق العمال والطبقات الاجتماعية المسحوقة تحت كنف هذا النظام الذي تسبب في عدة آفات اجتماعية واقتصادية كالفقر والاغتصاب والاختطاف كل هذا كان دالماو وإيما يناضلان من أجل هذه القضايا كل حسب منظوره والحب كان هو البعد الخامس الذي يحرك خيوط هذا النضال باتجاه الانعتاق من براثن الظلم والجهل الذي ترجم في أعمال دالماو المختلفة. 

التمثلات الجمالية في برشلونة من خلال رسام الأرواح  

تحتضن برشلونة ثراتا معماريا و ثقافيا وفنيا هاما وغني نظرا لعدد من التأثيرات و الموروثات رومانية، واغريقية و إسبانية  وايضا عربية واسلامية بدرجة أقل، وهذ يتمثل في مختلف أرجاء هذه المدينة الساحرة ، ثم هوسمانية خلال التنمية الخيالية التي عرفت خلال القرن التاسع عشر التي أعطتها انتظامها و عماراتها الانيقة  ورونقا خاصا في بلورة استراتيجية تخطيط المدينة فنيا والذي نتج عن حقبة فنون التزيين بمختلف المباني بالخزف والسيراميك والقرميد وبمختلف الألوان  فشكل الفنان المعماري أنطوني غاودي نجم المدينة بكونه مؤسس الحركة الحداثية الكتالانية لقد عاش غاودي معظم حياته ببرشلونة و شيد بها أشهر بناياته، مثل كالكاسا باتيو أو كاسا ميلا (التي تسمى أيضا لا بيدريرا حيث يتواجد متحف غاودي) و ساغاردا فاميليا و حديقة غويل..الخ 

 الرسام دالماو شخصية الرواية الرئيسية، التي اعتمد عليها فالكونس، تمكن من كسر النمط الذي تم إنشاؤه في الفن التصويري وترجمته في مباني برشلونة “وإيما ” مصدر إلهامه وحبه الكبير بلا منازع ومصدر شوقه لسنوات.

يقدم لنا الكاتب صورة بانورامية وجمالية قاتمة في مدينة تعيش في صراع طبقي كامل ، مع برجوازية ثرية وغنية تتحكم في الينابيع الاقتصادية والثقافية والطبقة الاجتماعية التي شكلها العمال  المظلومون والذي سيكون بداية للفن الواقعي الاشتراكي والذي سيترجم أكثر عند ظهور الثورة البلشفية هؤلاء العمال الذين يعيشون ظروفا مزرية وغير إنسانية هي امتداد للثورة الصناعية التي نشأت في اوروبا هذه النقطة  منحت  فالكونس  الفرصة لبناء قصة تدور بشكل رئيسي حول” دالماو”  و “إيما” المذكورين أعلاه ولكن مع العناصر الاجتماعية والسياسية والدينية وجعلت برشلونة مثل برميل بارود ثابت سينفجر بأي لحظة مما أثر ذلك بشكل جلي على الحياة الفنية والجمالية بمباني المدينة .

  وفي كل هذا الصراع الاجتماعي كان الفن الحداثي إحدى اللبنات الأساسية في تعديل المظهر الفني والجمالي لبرشلونة مع معلومات وفيرة عن البانوراما الفنية للمدينة الكتالانية في مطلع القرن العشرين، والذي سيؤثر بشكل واضح على هندسة القلب النابض لاقليم كتالونيا 

الاستنتاجات وتقييم الرواية

 من خلال قراءتي لهذه الرواية يمكن استخلاص مجموعة من النقاط حول هذه الرواية ذات الأبعاد التاريخية والفلسفية الجمالية:

كالعادة بدأ فالكونس روايته من إطار تاريخي موثق مستلهما قريحته الأدبية التي تسوح في بحر الخيال التاريخي وذلك خلال سلسلة من الأحداث التي تتسارع بشكل متسارع وأحيانا بطيئة ومليئة بالعواطف حيث تبرز الشخصيات التي تطفو على سطح الرواية خاصة دالماو وإيما طرفي القصة الرئيسية.

تجمع رواية رسام الأرواح بين مفاهيم الجمال الفني والعدالة والتي انعكست في الرواية من خلال أحداث وتحولات اجتماعية وسياسية كبرى عرفتها برشلونة في العصر الحديث وهي امتداد للتحولات التي مرت بها الجزيرة الايبيرية بحقبة الحرب الأهلية الإسبانية. 

الأصول العامة لهذه الرواية هي القصة الرائعة لشخصياتها المختلفة من خلال إعادة تشييد المباني التي أضحت الآن رمزية وإشارات المهندسين المعماريين الذين أحدثوا ثورة في إعادة هندسة شوارع برشلونة، وقدم لنا فالكونس وصفا رائعا ومميزا ﻷهم شوارع ومباني المدينة في بداية القرن العشرين وهذا تجلى في الرمزية الفنية التي مثلها بطل الرواية “دالماو “حول أهمية عمله، مكانًا مهما في الرقعة الروائية لرسام الأرواح، مما يثير مسؤولية الفنان بشكل صحيح من حيث وقته وقيمه الخاصة.

فيما يتعلق بشخصيات الرواية  فقد تم بناؤها جيدًا  على الرغم من أننا رأيناها تقريبًا في قصص أخرى مماثلة لفالكونس مثل شخصية إرناندو في “رواية يد فاطمة ” والتي تدور حول  قصة شاب محاصر بين ثقافتين وممزق بين عقيدتين في صراع متحمس من أجل التسامح الديني والعيش المشترك خاصة بعد الواقع الذي فرض في عهد الملكة إيزابيل الكاثوليكية وزوجها فرناندو اﻷراغوني والذين أحدثوا نوعا من الشرخ الاجتماعي بالنسيج الاسباني بشقيه المسيحي والمسلم ، وهو نفس الصراع الداخلي الذي عاشه بطل القصة دالماو حيث أصبح محاصرًا وممزقا بين عالمين مختلفين بين البروليتاريا والبروجوازية ،والتي أعدمت والده بسبب معتقداته وأفكاره الأناركية.

هناك تشابه نوعا ما بين رسام الارواح ورواية الحنين الى كتالونيا لجورج أورويل حول القضايا العمالية والطبقة البروجوازية وهي تندرج في نفس الفترة التاريخية التي انطلقت فيها شرارة الثورة ضد النظام البروجوازي ببرشلونة حيث كانت الحركات الأناركية والاشتراكية رأس حربة ضد نظام فرانكو.

  رسام اﻷرواح هي رواية الخيال التاريخي النموذجية والتي تحتوي على العديد من العناصر التاريخية والفنية بالدرجة الاولى فالمواضيع التي تعامل معها الكتاب هو ظهور الفن الحديث الذي أثر على الهندسة المعمارية ولكن سنجد أيضا الملصقات الإعلانية والجداريات الفنية التي رسمها الرسامون وهو متداخل ومتشابك نوعا ما مع احتجاجات الطبقة العاملة في الشوارع التي تناضل من أجل حقوقها وتحسين ظروف معيشتها.

البنيوية اللغوية لرسام الأرواح هي سهلة الفهم بالرغم من استعمال مصطلحات أكاديميةو بلغة مثقفة ولكنها سهلة بالنسبة للقراء العاديين عكس رواية يد فاطمة التي استعمل فيها فالكونس معجم لغوي صعب وهذا طبيعي نظرا للظرفية والفترة التاريخية التي بنى عليها قصته وبالرغم من أن رسام الأرواح فيها فصول طويلة للغاية وهذا ربما يشكل ملل للقارئ إلا أنه من وجهة نظري يثري المعرفة والذاكرة التاريخية ببيانات تاريخية مثيرة للاهتمام خاصة وأن الرواية تؤرخ للمسار الأدبي والفني لشوارع برشلونة وكأنها مستلهمة من مسارات ثربانتيس صاحب رائعة دون كيخوطي دي لامانشا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق