ثقافة وفن

صعاليك العالم من الكوابيس إلى الجنائز

داود الفرحان

كنت أشكو لباحث عربي ظروف اللاجئين والنازحين في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومثلهم في فلسطين، وكيف أنهم في الداخل والخارج ضحايا لكل الذي جرى ويجري وسيجري، فقال إن مأساتنا تعود إلى زمن الشاعر الصعلوك الشَّنْفَرَى.

وهذا الشاعر الجاهلي، هو ثابت بن أوس الأزدي، من فرسان الجزيرة العربية، توفي عام 525م، وكان أحد الذين عُرفوا في ذلك العصر والأوان بالشعراء الصعاليك، ومن بينهم تأبط شراً (خال الشنفرى)، والسليك بن السلكة، وعمرو بن البراق، وأسيد بن جابر، وعروة بن الورد الذي يلقب بعروة الصعاليك. واشتهر الشنفرى بسرعته في الجري مثل شهرته في الشعر حتى قيل إن الخيل لا تدركه. عاش الشنفرى في البراري والجبال وحيداً حتى ظفر به أعداؤه وقتلوه. وله قصيدة شهيرة اسمها «لامية العرب». ونُقل عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله: «علموا أولادكم لامية العرب لأنها تعلمهم مكارم الأخلاق». واللامية طويلة بشكل غير مألوف في شعر الصعاليك، فضلاً عن صدق عاطفتها ودقة تصويرها للبيئة العربية الصحراوية القاحلة، وخاصة في جنوب مكة. ومن أبياتها «وَإنْ مُـدَّتِ الأيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أكُـنْ – بَأَعْجَلِهِـمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ».

تمرد أغلب الصعاليك على سلطة القبيلة وعاداتها، فطُردوا من قبائلهم. لكن الباحث والعالم اللغوي المصري شوقي ضيف يرى في كتابه «العصر الجاهلي» أن الصعلوك هو الفقير الذي لا يملك من المال ما يساعده على تحمل أعباء الحياة، وبهذا المعنى فإن 3 أرباع الأمة العربية من الصعاليك. وأقرب صورة فنية للصعلوك هي ما جسّده الفنان العالمي شارلي شابلن في معظم أفلامه السينمائية الطويلة والقصيرة حتى صار «إمام» صعاليك القرن العشرين. إلا أن هناك توصيفاً آخر للصعاليك يقترب من قطاع الطرق والخارجين عن القانون الذين يقومون بأعمال السلب والنهب. وليست هذه «النظرية» مقصورة على الصحاري والجبال والمدن العربية، فهي كانت قائمة في القرون الوسطى في أوروبا، كما جسدتها شخصية «روبن هود» الفارس الشجاع الذي يسرق الأغنياء ليكرم الفقراء. وهناك نسخة يابانية من «الصعاليك» كما شاهدناها في المسلسل التلفزيوني الشهير «حافات المياه» الذي سَحَرَ المشاهدين العرب قبل أكثر من 30 عاماً. وتقوم هذه النسخة على إنصاف العشاق المتمردين في وجه جبروت العائلة والقبيلة والقيم والتقاليد. وظهرت في هذا المسلسل لأول مرة «الصعلوكات» بعد أن كانت هذه الصفة حكراً على الرجال. وكررتها هوليوود في أفلام كثيرة، من أشهرها «ملائكة تشارلي». وقبل الصعلوكات اليابانيات والأميركيات شاهدنا في الخمسينات من القرن الماضي الصعلوكة «عبلة» التي أحبت الصعلوك «عنترة» وتمردت على أهلها وحملت السيف ضد الظلم والقمع القبلي. وفي السينما الهندية كان راج كابور في الستينات أفضل من جسّد شخصية الصعلوك الهندي تمثيلاً وغناءً.

في كل مظاهرات العالم ضد الفقر والجهل والعنصرية والفساد والحروب نجد صعاليك يتقدمون الصفوف جنباً إلى جنب مع سياسيين وفنانين وأدباء. لا ينكر الشعب الألماني أن صعاليكه كانوا من أوائل الذين حطموا جدار برلين في عام 1989. ويعرف العراقيون أن اللصوص الذين نهبوا مؤسسات الدولة والبنوك والمتاجر في حرب الرئيس الأميركي بوش ضد العراق في عام 2003 كانوا من أسوأ غوغاء الصعاليك الذين لا يقيمون وزناً للأعراف والقيم والقانون، وشاهدنا كيف سرق اللصوص الثلاجات والتلفزيونات وأجهزة الكومبيوتر والكراسي الطبية وحافلات النقل العام، وسيارات نقل القمامة وسيارات الإسعاف.

وفي كل روايات وقصص الأدب العالمي كانت شخصية الصعلوك بارزة بمعناها التمردي، من «البؤساء» لفيكتور هيغو، إلى «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز، إلى ثورة العبيد في الفيلم الأميركي «سبارتاكوس»، إلى «الجريمة والعقاب» لفيودور دوستويفسكي. وحين توفي الشاعر الروسي – الأوكراني إدوارد ليمونوف في عام 2019 قالت الصحف الروسية إنه «آخر صعاليك الأدب الروسي». وهو تعبير غير دقيق؛ فمن يضمن أن شاعراً روسياً آخر لن ينضم إلى قائمة الصعاليك؟ والأدب العربي حافل بالصعاليك الذين خلَّدهم التاريخ بسبب هذه الصفة التي يعتبرها الباحث المصري الدكتور محمد عليم «عظيمة كالكرم والشجاعة والشرف». ولا ننسى أن أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ وصفهم بـ«الحرافيش» وشكّل منهم شُلّة مقهى في نهاية أربعينات القرن الماضي، ضمت مجموعة أصدقاء، من بينهم الفنان أحمد مظهر، والروائي عادل كامل، والسينمائي توفيق صالح، والكاتب الساخر محمد عفيفي، والكاتب أحمد علي باكثير، والفنان التشكيلي جميل شفيق، ورسام الكاريكاتير بهجت عثمان. كما دخل وخرج من «الحرافيش» ما يسميهم محفوظ «الأعضاء غير الدائمين»، مثل صلاح جاهين، والدكتور مصطفى محمود، والأديب والباحث لويس عوض، والصحافي الكبير أحمد بهاء الدين، والروائي ثروت أباظة. وهناك شُلل حرافيش أخرى، ضمت الشاعر محمد عفيفي مطر، والمخرج يوسف شاهين، الذي قدّم شخصية الصعلوك بمعناها الاجتماعي في فيلم «باب الحديد» من إنتاج عام 1958.

وفي العراق، عَرَفَتْ العاصمة بغداد في سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي عدداً من الشعراء العراقيين الذين اتفق الأدباء، أو أعضاء مقاهي الأدباء، على تسميتهم بالصعاليك. من هؤلاء جان دمّو، وكزار حنتوش، وحسين مردان، وعبد الأمير الحُصيري. وأنا أضيف إليهم بتردد فاضل العزاوي، ورشدي العامل، لكنهما كانا أنيقين واجتماعيين ولا يرميان «بلاويهما» على أحد! وللإنصاف، لم يكن أحد من هؤلاء «الصعاليك» شرساً أو مؤذياً أو خارجاً عن القانون أو الحياء. كان رشدي العامل رقيقاً وشفافاً وباسماً ومفلساً وعاشقاً ومخموراً. وكان جان دمّو مهذباً مؤدباً نحيفاً هامساً، حتى إنه لما ساقوه للانضمام إلى «الجيش الشعبي» في الحرب العراقية – الإيرانية جاءني ليبشرني بأنه سيضمن انتصار العراق فوراً في تلك الحرب! وقد بذلت مجهوداً لإعفاء هذا الشاعر الذي لا يزيد وزنه عن 40 كيلوغراماً، من «الجيش الشعبي»! ففلحت مجهوداتي. ومن المفارقات أنه هاجر قبل الاحتلال الأميركي إلى أستراليا وتوفي بعد الاحتلال بشهر واحد في سيدني.

وقبل سنوات قليلة أصدر الشاعر العراقي عبد المنعم حمندي كتابه المعنون «أمير صعاليك بغداد»، وهو يقصد الشاعر النجفي الراحل عبد الأمير الحُصيري الذي يُطلق عليه البعض لقب «الصعلوك» ويصفه آخرون بـ«الوجودي». قد أتفق مع الدكتور الباحث العراقي عبد الحسين شعبان في أن الحُصيري «لم يكن يحب بغداد، ولا تعلق بها كعادة عشاقها من الشعراء. فهو لم ينجح فيها حياتياً، وإن سطع فيها شعرياً» كما ورد في الكتاب. وكل المبدعين الذين قدموا إلى العاصمة من المدن والقرى البعيدة في العراق لم يكونوا يحبون بغداد أكثر مما يحبون المدن والقرى التي جاءوا منها. وهذا أمرٌ طبيعي وحقٌ إنساني لا ينال من عراقيتهم ووطنيتهم، وبالتالي فهذا ليس عيباً ولا نقصاً ولا جحوداً، وهذا ينطبق أيضاً على أدباء الأقاليم والمحافظات والقرى في مصر والسودان ولبنان وسوريا والأردن وتونس، ولو كانوا يكرهون العواصم لعادوا إلى مدنهم الغافية على ضفاف الأنهار وقراهم الندية في الأرياف. لا أجمل من المدن الصغيرة والقرى البسيطة، سكانها معروفون بالأسماء أو الكُنى وليس بالصفات أو المناصب.

لكن مؤلف الكتاب عبد المنعم حمندي يعترض على ما قاله الباحث عبد الحسين شعبان من أن الحُصيري لم يحب بغداد: «عندما نزل بغداد لم يصدق أنه في رحابها خائضاً غمارها. كانت تُمثل له عروسَ الأساطير والحلم البعيد المنال، أرَّقَته كثيراً وسَهَّدته ليالي بغداد الطوال. بغداد هي تلك الرؤى المحتشدة في مخيلته منذ طفولته؛ هي الحلم والمُنى»…

«بغداد والدنيا تشعُّ وتنطوي… لترفَّ فيها للإباء مضاربُ».

ويؤكد المؤلف أن بغداد أثَّرت في الشاعر وافتُتن بها في قصائد شتى، وجُنَّ بها حَدّ أن أصبح من أبرز معالمها، ومناراً في لياليها، تعرفه الحانات، كما تعرفه المقاهي. «ولم يبقَ شارع في بغداد أو رصيف إلا وآثار خطى الحُصيري فوق بلاطه. كان أحد معالم بغداد الواضحة وأمير صعاليكها». لم يتردد عبد الأمير الحُصيري في الاعتراض على مدينته ومسقط رأسه النجف. وينقل المؤلف عنه قوله: «سوف نستيقظ ذات صباح فنجد مدينتنا بأزقتها وسراديبها وحاراتها، قد تحولت إلى مقبرة كبيرة تطالعك بكوابيسها لكثرة ما يردها من جنائز. إنها مملكة موت خرافية….».

ويروي الحُصيري لكل الشعراء من مجالسيه كيف خصَّص الرئيس الراحل صدام حسين راتباً شهرياً له عندما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة في السبعينات. قال إنه ذهب إلى رئيس تحرير مجلة «وعي العمال» يشكو له ضعف الحال والفقر والحاجة، فقال له اكتب رسالة إلى صدام حسين. فكتب رسالة شكوى من الزمان وحاجته إلى العمل. «وبعد أيام استدعاني صدام واستقبلني أحسن استقبال، ثم خصص لي راتباً شهرياً مجزياً مقابل أن أراقب منسوب مياه نهر دجلة يومياً من إحدى الحانات في شارع أبي نؤاس، وأكتب تقريراً عنه»! وتفاخر عبد الأمير الحُصيري بأنه صار حارساً لنهر دجلة بأمر من صدام حسين!

المعروف عن الشاعر محمد مهدي الجواهري أنه لا يحب في جلساته أن يتحدث أحد عن شعر غيره من الشعراء. وكل الشعراء والمطربين والممثلين كذلك. فليس منطقياً أن يتحدث أحد أمام أم كلثوم عن غناء مها صبري! ولا لائقاً أن يتحدث أحد أمام يحيى شاهين عن تمثيل عبد السلام النابلسي! لكن عبد الأمير الحُصيري هو الوحيد بين الشعراء الكبار الذي يسمح الجواهري بالحديث عنه أمامه وإلقاء بعض أشعاره. قال أبو فرات ذات يوم إنه يرشح الحُصيري لخلافته، وهو أمر لا يفعله غيره. وسبق للشاعر الراحل نزار قباني أن رفض تسمية شاعر يخلفه في إمارة قصائد المرأة. قبل الاحتلال كان صعاليك العراق من الشعراء البؤساء قليلين. لكن صعاليك العراق بعد الاحتلال ليسوا شعراء ولا مبدعين، وإنما أصحاب ميليشيات ومليارات.

وأخيراً، كل المهاجرين الأوائل إلى أميركا وأستراليا ونيوزيلاندا كانوا من الصعاليك، وأشهرهم صعاليك «المافيا» الإيطالية و«الكاوبوي» الأميركي و«الفايكنغ» الإسكندنافيون. ولكن، أليس من الغريب أن أحفاد صعاليك الفايكنغ والكاوبوي والمافيا يستكشفون السماوات السبع، بينما أحفاد الشنفرى وعنترة وعروة بن الورد مشغولون بـ«الواتسآب»؟!

نقلاً عن “الشرق الأوسط”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق