
أرسطو والديمقراطية
خديجة منصور
ارتبط التفكير الفلسفي بالبحث عن تفسير الكون وظواهره، وبفكرة المبدأ الأول المؤسس للأشياء، وهذا ما شجع الفلاسفة على تعميق أفكارهم في البحث عن الظواهر التي تتأسس عليها الممارسات والأفكار أي الفعل الإنساني.
وقد تجاوزت الفلسفة باقي أنماط المعرفة مما دفع بالفيلسوف إلى التفكير الحر والمطلق، فهو يهتم بصياغة وبناء المفاهيم والنظريات للوصول إلى حقيقة معينة، يقول هيجل في هذا الصدد:” تهتم الفلسفة بالأفكار وليس فقط بما تعودنا على تسميته مجرد مفاهيم، على العكس من ذلك إنها تضع الخاصية الجزئية وغير الصحيحة لهذه المفاهيم مادام أنه لا ينبغي أن نفهم من المفهوم ما نعنيه في كثير من الأحيان بهذه الكلمة أي فقط تحديدا مجردا من إنجاز الفهم، إنها تبين أيضا أن المفهوم وحده يملك واقعية حقيقة”
فكان من الضروري النظر إلى الإنسان بوصفه كائنا عاقلا، يملك الإرادة والاختيار وهو موضوع الأخلاق منذ القدم، والإيمان بوجود نواميس طبيعية، وهذا ما أكدته فلسفة أرسطو العلمية والواقعية، باعتبارها علم الجوهر الكلي، أي دراسة الظواهر الطبيعية وصولا إلى تحديد الكلي وتعريفه عكس أفلاطون، بدأ من الأفكار والمثل لينزلها إلى أرض الواقع.
توالت على اليونانيين أنظمة الحكم مختلفة، كان أولها سيادة النظام الملكي إلى أن انتقلت السلطة السياسية في يد المواطنين ليتحول إلى ديمقراطي، فكيف حدد أرسطو هذا المفهوم؟ وما هو موقفه من النظام الديمقراطي؟
ظهرت كلمة الديمقراطية مع اليونانيين في مدينة أثينا، وهي مشتقة من كلمتين ديموس Demos (الشعب) وكراتوس kratos (سلطة) أي Demoskratosأي “حكم الشعب”، فهي أشهر نماذج الحكم التي شهدتها اليونان وتأسست على ثلاث مبادئ أساسية : المساواة السياسية، و المساواة الاجتماعية، وحكومة الشعب .
فالديمقراطية هي حكم تكون السلطة العليا فيه للشعب حيث يمارس سلطته مباشرة، أو من خلال من يمثل الشعب عن طريق الانتخاب.
وقد أبرزت الكاتبة حورية توفيق مجاهد في مؤلفها الشهير “الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده ص37″هذا المفهوم بتفصيل: “تتكون هذه الجمعية من المواطنين الأحرار الذين بلغوا سن العشرين، وتعتبر أعلى سلطة في المدينة يجتمع أعضاؤها عشر مرات في سنة وكان يوجد بها نوع من النظام الذي يكلف محاسبة المسؤولين والقضاة على أعمالهم والإجابة عن أسئلة أبناء الشعب، فقد كانت جميع المناصب مفتوحة أمام الأفراد الأحرار بحيث يمكنهم أن يتولوها عن طريق الانتخابات أو القرعة، ويتسم هذا الأسلوب بأنه يفسح المجال أمام كل مرشح لأي منصب أن يتولى المسؤولية بغض النظر عن ثرائه أو انتمائه، فالقادة العسكريون يحرصون على العمل بتفاهم مع القضاة والقادة السياسيين، لأن فشلهم في الحصول على التأييد الضروري من المسؤولين يمكن أن يكلفهم فقدان مناصبهم .” وهنا يتبين لنا أن الجمعية العامة لعبت دورا مهما في تطبيق مبادئ الديمقراطية فهي نظام حكم قائم على مشاركة الشعب.
ومن جانب أخر اعتبر أرسطو أن النظام الديمقراطي ليس أمثل الأنظمة السياسية، فهي “حكم الأغلبية، القائم على أساس العدد صحيح أن الأغنياء هم عادة الأقلية، وأن الفقراء هم عادة الأكثرية لكن هذا الأمر يكونون الأقلية.” يوضح أرسطو أن الديمقراطية هي أقدم وأعرق نظام، حيث يعمل أفراده بالزراعة و الفلاحة أو رعاية القطعان من الأنعام ويتميز هؤلاء بانكبابهم على أعمالهم لضيق ذات اليد، حيث لا يتوفر لديهم وقت للانشغال بالسياسة، فهم يفضلون العمل أكثر، ففي هذا النوع يهتم الفقراء بالعمل في حين الأغنياء بالسياسة”، إّذن فالديمقراطية تستمد مقوماتها من المساواة بين الفقراء والأغنياء ولا تنسب السيادة لأي طبقة من طبقات الشعب لأنها جميعها متساوية، فيقول أرسطو:”…المساواة تضمن بأن لا يحكم المعسرون أكثر من الموسرين، وأن لا يتولى أحد الفريقين السلطة العليا، بل أن يتماثلا كلاهما فيها .”
وتبقى الديمقراطية كلمة يونانية لتشمل جميع أنحاء العالم، وهذا ما عبر عنه بريكليس في خطبته :”إن نظام الحكم عندنا لا يتعارض ولا يتنافس مع أنظمة الحكم عند الآخرين نحن لا نقلد جيراننا، بل نحن مثال يحتذى نعم ، نحن نسمي نظام الحكم عندنا بالديمقراطية لأن الإدارة هي في أيدي جماعة من الناس لا في أيدي قلة منهم”، نرى أن بريكليس يحاول أن يحدد معنى الديمقراطية، فهي النظام الذي يجعل إدارة الدولة في يد جماعة من الناس وليس قلة منهم، وهي لا تتأسس إلا بمعية مبادئها أو مقومتها الأساسية، فالمساواة أهم مرتكزاتها، والفضيلة وسيادة قانون عادل بين الموطنين، وقد حدد أرسطو أربع أنواع للديمقراطية في كتابه السياسيات:
النوع الأول: المساواة التي يشترك فيها جميع الطبقات سواء الغنية أو الفقيرة، “فإن الحكم الشعبي الأول هو الذي يدعى بالحكم الديمقراطي أنه يعتمد خصوصا على المساواة.”
النوع الثاني: أسس هذا النوع من الديمقراطية السيادة في يد القانون ولا يسمح للمواطنين بالمشاركة في المناصب، وهي تمنح الحق للمواطن الأصلي.
النوع الثالث: يمنح لجميع المواطنين الحق في تولي المناصب، بسيادة القانون.
النوع الرابع: فهي تضع السيادة في يد الشعب، عندما تصبح المجالس الشعبية فوق القانون، فهذا النوع جامع لجميع الأنواع السابقة.
فأرسطو في رؤيته للنظام الديمقراطي أوضح فساد هذا النظام لأن من خلاله تتحول الحكومة من خدمة مصالح الأفراد (المصلحة العامة ) إلى (المصلحة الشخصية ) ويصير بذلك المجتمع في حالة فوضى، لهذا صنفه أرسطو في الأنظمة الفاسدة لأن الشعب يكون فيه متسلطا على القانون، فهدف أرسطو هو وضع نظام متوازن بين الفقراء والأغنياء ويضع الحكومة في قبضة طبقة من الشعب، هذه الطبقة هي الوسطى يقول أرسطو “الطبقة الوسطى هي التي تقوم بهذا التوازن بين فئات الشعب فكلما زادت الطبقة الوسطى كلما زاد استقرار الدولة، لذا فإن أفضل حكم هو حكم الطبقة الوسطى أو الديموقراطية و هذه الطبقة وازنت بين أطماع الأثرياء وهمجية الفقراء .”
فقد حدد أرسطو معيار الحكومة الجيدة، التي تتبنى مفهوما واقعيا وليس مثاليا كما اعتمده أستاذه “أفلاطون”، “من البديهي أن أفضل شكل للحكومة هو بالضرورة ذلك الذي يستطيع فيه كل فرد التصرف بالطريقة الأفضل والحياة في سعادة”، إنه لا يبحث عن تعريف الدستور الأفضل “كأولوية” أو وضعه وفق مبادئ فلسفية معتبرة كقواعد أساسية. ما هو مهم لديه وقبل كل شيء هو الوصول إلى وضع:” شكل أو منهج للحياة حيث معظم الناس يستطيعون العيش بشكل مشترك، ودستور يتم تبنيه من معظم هؤلاء”. ” الحياة الأفضل هي تلك التي تتشكَّل من خلال شيء وسطي، وهذا الشيء الوسطي يوضع في التنفيذ من خلال الطبقة الوسطى”. ففي المدينة يوجد ثلاث طبقات اجتماعية: الأشخاص الأكثر غنى، الأكثر فقرا، و”الأشخاص في الوسط بين الطبقتين السابقتين”. فهدف أرسطو هو سيادة القانون باعتباره معيارا ونظاما صالحا، ” فالقوانين الصالحة تكون في الدساتير الصالحة، والقوانين الفاسدة تكون في الدساتير الفاسدة، بمعنى أن أساس النظام الصالح هو النظام الذي يطبق حكم القانون”. “بارك أرنست، النظرية السياسية عند اليونان”، فسيادة القانون أساس نجاح أي نظام سياسي “القانون وحده هو الحاكم”، وقد حث أرسطو على ضرورة التمسك بالقوانين باعتبارها سلطة عليا على سلطة الحاكم، فالحاكم في الأول و الأخير بشر وممكن أن يقع في الخطأ، لكن القوانين الوضعية ثابتة وأعلى من سلطة الحاكم، وهذا ما يضمن للدولة الاستمرارية وضمان الحقوق الفردية والاجتماعية للمواطنين ،”أنه خير سبيل لضمان الحريات و المحافظة عليها، فالحكومة الدستورية تتماشى مع كرامة الرعية ومع عزتهم ” إذن فالقوانين الدستورية هي التي تحدد مسار الدولة وقد جاء اهتمام أرسطو بالقوانين من خلال كتابه الخطابة، وأوضح فيه طرق تعلم فن المرافعة أمام القضاء وتحدث خلالها عن القانون الطبيعي والقانون الوضعي والحالات التي يمكن أن يعتمد فيها القاضي القانون الأول على الثاني مؤكدا أنه على القاضي أن يصدر أحكامه تاركا أفكاره جانبا لأنه لا يملك الحق في تغيير القانون .