ثقافة وفن

روايـة عـواطـف وزوارهـا… للحبيـب السالمـي

جدلية الهوية والاختلاف فـي المنطقـة البينـية

د. أسامة صغير

البنيـة السرديـة والتطهيـر الفنـي

يؤكد العنوان أن بيت عواطف يشكل البؤرة الأساس في توليد السرد ونول الأحداث، لذلك نرى السارد متمسكا بهذا البيت/البؤرة، إذ منه وبه دائما يقيس المسافة، فنستشف من ذلك أنه التركيز الذهني على ألا تضيع الخيوط السردية من بين يدي الناسج. من هذا البيت وفيه يبدأ السرد ومنه وإليه ينتهي.

رواية ” عواطف وزوارها “، أشبه ما تكون بعِقد فريد، يتشكل من حبّات قصصية بديعة، ينتظمها خيط روائي جوهري، ذلك أنها مقسمة إلى أجزاء تشبه كثيرا ميثاقَ القصة القصيرة، كل بعقدتها وبنيتها وعنوانها: اذهب إلى الجحيم/ الصلح/ كل نفس ذائقة الموت/ كيف حملت فارو إلى البيطري؟ / جدل حاد في شقة الباستيل/ دموع مريم/ شاي بالنعناع في مقهى الجزائري/ أربع صور لقبر واحد، العقاب/ الغفران/ زيارة مفاجئة/ المبشرون/ تاجر خردة/ رقص شرقي/ متشرد دار الأوبرا/ رسالة موت/… فهي بالتالي دوائر سردية صغرى داخل دائرة سردية كبرى، ولا تتحقق الدورة السردية إلا بتضافر وتساند كل الدوائر الصغرى المشدودة مثل أسلاك العجلة الهوائية إلى المحور السردي العام. لعل الكاتب كان واعيا بالبعد القصصي لروايته لمّا كان ينسجها ويبرق بحنكة بين خيوطها، إذ نسمع صوت المؤلف المرجعي، ينسل ويقول على لسان السارد: ” رويت لهما قصة العقاب ” ص 136، وهو الجزء الذي عنونه “العقاب”. عند هذا الكشف، نقول بأريحية إن الكاتب إنما يروي لنا قصصا حول عواطف وشلة زوارها بمصائرهم المتفرقة حينا، المتضافرة في أحايين كثيرة، منها وبها نسج روايته على نول سردي تونسي ماتع.

إن هذه الهندسة السردية الجمالية، رفدت الرواية بمُقوّم أساس يراهن عليه الكاتب، ألا وهو التطهير النفسي والذهني، فأولى قصص الرواية تبدأ بحالة كراهية: ” أكرهه كرها شديدا حتى إني فكرت ذات مرة في قتله، بل ووضعت خطة جهنمية لذلك ” ص 5.  لكن مع اكتمال الدورة السردية، وبلوغ القصة الأخيرة من العقد السردي الفريد، تتطهر الذات، وتغدو الكراهية حبا، فيقول السارد المنصفُ: ” وبدافع قوي انحنيت عليه ورحت أقبل خطمه البارد غير عابئ ببرودته ” ثم يضيف: ” من المؤكد أن كراهيتي له حجبت عني جماله ” ص 286. وتكون النتيجة أن الحبيب السالمي يكتب بلا ضغائن أو تصفية حسابات، بل يعتمد تقنيةَ / رؤيةَ أن يُقدِّم مظهر الشخص وخطابه الأول، تم ينسف ما يتكون من صورة عنه لدى المتلقي عندما يغوص في نفسية الشخص ليكشف للقارئ ما لم يظهر منها. إنها عملية تفكيك ذهني للصور والمواقف وتطهير للذوات من الأحكام النمطية، بذلك فهو يبحث الجوانب المشرقة في كل إنسان، كأنها دعوة للتطهر الداخلي مما نحمله عن وحول بعضنا بعضا. 

ومن أجلى علامات هذه الرواية، قوة بناء الحوار الذي كثيرا ما يخذل الكُتّاب، فهنا تحس أنك فعلا تشاهد وتسمع حوارات بين شخصيات حية ومتفاعلة، أو ليست الرواية تدور في المنطقة الثقافية البينية، منطقة التجاذب والتحاور الجدلي!!

الفضاء السردي في المنطقة البينية

تتحرك الرواية في فضاء سردي ومرجعي خطِر وحرج، نلتقط فيه عديد المواقف واللحظات التي تؤكد حرص الكاتب على أن يظل في حالة وعي، وأن يغربل ما قد يبذر عن اللاوعي. إنها يقظة المتحير، الواقف في المنطقة البينية الحذرة القلقة والمتحركة في الموقع الثالث للثقافة المعاصرة، يقول السارد: ” هكذا أكون في كل مكان وفي الوقت ذاته لا أكون في أي مكان” 164. إنه أشبه بالميت الذي يُحرق جسدُه ويُذرى رمادُه في الريح أو الماء تماما مثلما تمنى أن يوصي أخته التي تتواصل معه عبر الرسائل المقلقة، والتي تصر على أن يُدفن جثمانه في بلده الأصل، حتى أنها حجزت وحفرت له قبرا وأرسلت صوره. في هذا المقام يمكن القول إن الأخت تمثل الصوت السفلي ورواسب التربية والقيم الموروثة، فلا يأتي ذكرها، إلا ويصير السارد في حالة وجل وانبعاث الهواجس والأسئلة المقلقة حول القيم. وعبر رسائلها يتم تجسير السرد مع تونس، قرية العلا تحديدا، فنكون أمام حالة التوزع الوجودي والهوياتي، إذ كيف يتفاعل عرب مسلمون بمرجعية نسقية شرقية مع نسق ثقافي وقيمي غربي يجدون أنفسهم مغتربين فيه؟ فيكون لقاء الشرق والغرب السؤالَ الأساس في النص، حيث يتآخى ويتجاور الإنجيل والقرآن، الصليب والهلال ويتخذان موضعهما الحضاري والإنساني في مكتبة بيت المنصف وبياتريس، ثم تُوارَب بوابات حدودية بين المرجعيتين حول قضايا خلافية مربكة مثل: المثلية، العلاقات الجنسية المفتوحة، العلاقة مع الحيوانات، علاقات الجوار، نمط التربية والتنشئة. لكن بالرجوع إلى الرسائل بين المنصف وأخته، نتساءل لماذا تُشكل تيمة الموت الرابط مع تونس ؟، فترميم القبر وصور القبر وحَفر القبر كلها تأكيدات وعلامات فناء وغياب.

في هذا الموقع/ الفضاء الثقافي والحضاري، يقارب الروائي أيضا محنة وعذاب الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين: كريم ابن مريم التونسية وسونيا ابنة السارد المنصف من زوجته الفرنسية، ولبنى ابنة عواطف المصرية من طليقها الجزائري. وإذ نمضي قدُما يهجس إلينا السارد بالإشكال والسؤال الذي تواجهه الرواية: ” مسألة معقدة، مسألة هويتنا “.

تجمُّع الشتات العربـي في أرض المهجـر الفرنسـي

أشرنا أعلاه إلى بيت عواطف باعتباره يشكل البؤرة الأساس في صناعة السرد، السارد المنصف يقيس كل الأمكنة والمحلات بالمسافة التي تربطها مع هذا البيت، والآن هنا نقول إن هذا البيت يُعتبر مجمع الشتات العربي في المهجر الفرنسي. وإذا كانت شخصيات الشلة/ المجموعة العربية، تعاني مشاكل كل على حدة، فإن الحل هو الاقتراب والتداني أكثر إلى بعضها بعضا لإزالة الانطباعات والأحكام والمواقف، أي الالتحام الذي ترمز إليه فكرة زواج عواطف المصرية من إدريس المغربي وزواج مريم التونسية من رياض الفلسطيني. وإن فرّقت السياساتُ المحلية والإقليمية الإخوةَ العرب، فالمفارقة أن الغربة في المنطقة البينية الحرجة قد جمعتهم، مثلما أن المستعمر السابق جمع الصف المغاربي إلى مائدة الحوار السردي. كما نلحظ حرص الكاتب على المساواة الاجتماعية السردية فيما يتعلق بالشخوص داخل مجمع الشتات: ثلاث إناث، هن: عواطف ولبنى ومريم، مقابل ثلاثة ذكور، هم: المنصف ورياض وإدريس.

في الجغرافيا الغربية، يستدفئ الجمع العربي بين حين وآخر حول أصناف المأكولات والمنتجات العربية بما فيها المغاربية من جهة: المغربية، التونسية والجزائرية، والمشرقية من جهة أخرى: اللبنانية والمصرية والفلسطينية. كان ذلك أشبه بطقس قيمي لاستحضار جوانب هوياتية حضارية، وقد شغل الهم الفلسطيني حضورا دالا في حضرة الشلة الباريسية.

ومما يشد الانتباه الجمالي كذلك في هذا العمل، أنه وبخلاف جل الكتابات اليسارية/ التقدمية التي ترسم الصورة الكاريكاتورية عن الشخصية المتدينة/ أو السلفية رادّة بذلك لها الصاع، فالسارد هنا رغم مواقفه وسلوكاته المتحررة، لا يسقط في مهلكة الإفناء الرمزي والتمثيل التشويهي لمخالفه القيمي أو الأيديولوجي. تتأكد هذه الرؤية في نماذج عدة، من بينها حديث السارد عن الشاب المتدين كريم وبوعلام وأيضا عند استحضار التلميذة المُحجّبة في الثانوية أثناء طرح مشكل الحجاب مع مدير المؤسسة الفرنسية.

آخـر القـول

في الرواية موضع الطرح، ينشغل الكاتب ببحث الجوانب والأبعاد الأخرى من الإنسان/ ذاك الكائن المجهول، فكم ” هو غامض ومعتم عالم الأحاسيس، كم هو متشعب ومتقلب وسري” 234، إنه يذكرنا بعوالم الكاتب التشيكي المعاصر إيفان كليما في ” لا قديسون ولا ملائكة “. لتبقى حلقات “عواطف وزوارها” رواية عميقة، تحدثنا قصصَها بلا صخب أو ضجيج. فهي تنضاف إلى حلقات الرواية التأملية، ونعلم كم سهلة ممتنِّعة شروط التأمل وطقوسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق