ثقافة وفن

المنقلبات السردية والاشتباك النفسي في رواية “العـين القديمـة”

للكاتب محمـد الأشعـري

د. أسامة الصغير

المرتكـز الأول: مفهـوم الآخـرية

تفيض الدراسات الثقافية بالحديث عن مفهوم الأنا والآخر في عالم بلغت فيه التفاعلات الخلالية درجة غير مسبوقة نتيجة التطور الهائل في وسائل التواصل المادي والرمزي. لكننا في رواية ” العين القديمة “، نقف عند مفهوم الأنا والآخر بشكله الداخلي، فيما يمكن أن أصطلح عليه الآخرية الجوانية. وهو الأمر اللافت في هذه الرواية. يقول السارد: “ما دامت كل حياة هي سلسلة من الأوهام، فما الفرق بين حياة فعلية وحياة نُركبها من الرغبات الطليقة ” ص 7، بهذه الجملة القاعدة، رصد الكاتب دغلا من: الشخصيات المزدوجة: مسعود وآخرُه الرجل، مسعود وآخره الطفل، الآخر وآخره، الحاكم وشبح آخَرِه الذي توفي بعد 40 سنة من الحكم الحديدي، الرجل العملاق وآخرُه الذي يظهر ويختلط في كوابيس مسعود، الموظفة الخمسينية نور الهدى التي تعاشر مسعود متخفية في مظهر امرأة أخرى يجللها الوقار والمحافظة، لكنها مشتعلة تواقة. ومن خلجات هذه الآخرية المتعددة نسمع الشاب العملاق متحدثا مع منى عن أبيه:  لماذا لا يكون قد وجد لنفسه صورة أخرى واسما آخر… من يكون الآخر ؟ الذي سُرق مني أو سُرقت منه ؟  ص 249.

هي إذن، رواية متعددة الأصوات، ليس تعددا جزافيا كما أوهمتنا الكثير من الروايات العربية، بل حقا نسمع أصواتا وزوايا تبئير متعددة، بل متناقضة تكاد تشق النص حتى داخل الشخصية الواحدة، من ذلك مثلا قول السارد مسعود: ” الاحتلال الهمجي لشخص مليء بالحياة والرغبات، من طرف شخص رمادي، يكاد يكون حجرا بركانيا منطفئا منذ آلاف السنين.. وعلي فقط أن أقتله، لا مكان لشخصين بهذا التناقض كله في حياة واحدة، وإذا لم أفعل، فسيقتلني ” ص 17. في هذا السياق، لا بد من التمييز بين ” الآخر ” بصفته صديق مسعود المخضرم ونديمه، وبين ” الآخر” كجزء ثان، متناقض في شخصية مسعود. فالمؤلف يبتكر شخصية  ترِدُ فقط بصفة ” الآخر ” ولم تَرِد باسم معين، بهذا فهو يعزز حالة الإيهام والدهشة لدى المتلقي بأن الآخر شخصية فعلية، بينما في منعطفات وثَنَيات الهواجس يمنحُنا درجة من اليقين أن الآخر المحتفى به، إنما هو المكوِّن السيكولوجي الازدواجي في شخصية مسعود الذي يعيش حياة كثيفة وحفية بتفاصيل وجودية على أساس حالة التعدد التي اخترقته وشرخت حياته نصفين: شخصيته المغمورة وشخصيته الثانية المبتكرة، بحيث يمكن اعتبارها الملاذ والمهرب. بالتالي، فهي رواية الازدواجات والانفصامات الكبرى، رواية تعري زيف التراص، وتقوض ادعاءات الكيان الفردي والجمعي، ساحبة قارئها إلى الأصقاع النائية من هشاشة الكائن وهلاميته، وما أصعب الإفصاح والتبيين في هذه المناطق الغائرة من حياة الفرد والجماعة، حيث يُروّض الكاتب اللغة لتقبض على المُجرَّدات والمتعاليات الرمزية في مناطق التماس مع ” الأسلاك العارية “.

المرتكـز الثانـي: مفهـوم الاقتـلاع

معروف أن الجغرافيا السياسية لواقع ما بعد الاستعمار قد خلّفت آثارا مادية على المكان وندوبا نفسية على الانسان، إنسان المستعمرات السابقة بشكل أدق. هذه العارضة اللغوية ” ما بعد ” لا تعني فصلا زمنيا، بل تعني استمرار واقع الهيمنة والاستعمار المقنّع، وهو ما انبرى ثلة من مثقفي أبناء المستعمرات في كشف بنياته العميقة وتفكيكها على ضوء ما يسمى ” الرد بالكتابة “. إن رواية ” العين القديمة “، تقع في خدنق هذه المقاومة الثقافية، وتُجلي الآثار والتشوهات السيكولوجية التي سبّبها واقع ما بعد الاستعمار وقد تواطأ فيه الفاعل الخارجي والفاعل الداخلي معا.

لقد توقفنا في المحور الأول عند المفهوم الجواني / الداخلي للآخرية،  والآن في هذا المحور نقف عند مفهوم الاقتلاع بدلالتيه: الداخلية والخارجية. لقد تلظى مسعود بهذا الاقتلاع داخليا على مستويين. الأول: اقتلاعه من ذاته /  كيانه، جراء الاعتداءات الجنسية المتكررة التي تكتّم عليها وحبسها دوامات من الصدى تزيده ابتعادا واقتلاعا من نفسه، وقد كان دواؤه من هذا الاقتلاع، هو المزيد من الاقتلاع بترحيله عن مرتع طفولته ومجاله الحيوي ب آيت باها في اتجاه الدار البيضاء. ثانيا: الاقتلاع النفسي والخلْع الذي تعرّض له جرّاء أحداث 1981. للإشارة في ذلك اليوم العاصف، وُلدت ابنته منى من زوجته الفرنسية هيلين. ثم يأتي الاقتلاع الجذري، في باريس منتصف الستينات بهدف الدراسة،  والتي أعقبتها  تغريبة امتدت قرابة 30 سنة في إيطاليا، حيث بدأ مسعود يعيش هذا الانفصام الوجودي منذ تجربة العمل في المنظمة العالمية للتغذية والزراعة في روما. لهذا، فالجغرافيات والمساحات السردية تتشابك بين: قبيلة آيت باها، الدار البيضاء، الرباط حيث يعمل مسعود بعد العودة، روما، باريس، الفلبين حيث توفيت زوجته، لوس أنجلوس حيث تعيش منى رفقة أخويها تجربة اقتلاع أخرى. مما يؤشر أن حالة  البتر الوجودي مستمرة بين أجيال أبناء المستعمرات، وقد اضطُروا إلى الانخلاع بحثا عن فرص الارتقاء المعرفي والاقتصادي في جغرافيا الغرب. أما ” الآخر ” هو الآخر فقد مرّ  بعمليات اقتلاع وئيدة في فرنسا وإيطاليا، وداخل الوطن، حتى إننا نسمعه يتأهب للّحاق بخادمته / خليلته الفلبينية، فيقول: ” سأٌقتلع من تربتي كما تُقتلع الأشجار العجوزة ” ص 137. بهذا، فنحن أمام شخصيات منخلعة مقتلعة، تُحايِثُ الخيبة الوطنية الكبرى، وتقف دليل إدانة على اجتثاث الأحلام الجمعية.

إذا كان من نواقص الرواية العربية ضحالة العمق النفسي للشخصيات وشح القدرة على تأويل المغاليق السيكولوجية للذوات، فهذه واحدة من الروايات التي تستطيع بعمق فريد أن تُقرّبنا من استبطان الشخصيات وكشف التناقضات الصارخة في الإنسان، تغوص بنا الى الأدغال الوئيدة للكائن، وتقتادنا إلى مناطق الدهشة، ذلك أن مناط الروائي الحقيقي هو البعد الغامض من الوضع البشري.

المرتكز الثالث: المنقلبات السردية

سبق القول إننا حيال رواية منسوجة في مناطق التماسات بين الواقعي والهلامي، تُعمّرها وتغمرها بياضات يصعب القبض عليها، كما يعصب القبض على المعنى في هذا الوطن، لذلك فهي كتابة محفوفة بالمنقلبات السردية التي تقوض باستمرار ما تراكم لدى المتلقي، وتُخيِّب أفق انتظاره، وتخييب أفق الانتظار هو الذروة الجمالية كما جاءت بذلك مدرسة التلقي الألمانية، إذ تكمن البراعة في عنصر المفاجأة والمباغتة لأنها تكون لحظات كشف وإدهاش وترويع ( من الروعة، وليس الروْع ).

ولنتأمل أحد أقوى هذه المنقلبات السردية: ففي الصفحة 19 يأخذ مسعود نفسُه وهلة للسرد، ثم يسترجع السارد / المبئر رسَن السرد، ونكتشف أن فعل القتل الضاري الذي جناه مسعود على باب الحديقة /باب الرواية، إنما هو كابوس رغبة قتل مسعود لشخصيته الثانية / آخَرِه الذي يجُرُّه الى منطقة لا تطاق من الانفصام، فتكون تقنية / الحلم قد استدرجت القارئ الى إيهام جمالي من داخل قُبحيات القتل، وهي تقنية تقع في صميم الاستغوار النفسي لتناقضات الإنسان. بعد ذلك يُمهل السارد قارئه، حتى آخر سطور الرواية، ثم يُباغته عندما يضع بين يديه رأس الخيط، ليصير شبه متأكد أن العملاق ليس إلا الشاب أسامة الذي بحثت عنه منى، يعيش بدوره جرحا في الهوية بحثا عن والده. مع هذه القفلة الشاهقة، تتداعى الأسئلة والشكوك: فهل أسامة شخصية روائية، أم هو بَقْيٌ مُشوّه عقب الأحداث السياسية التي هزت البلد عام 1981، حيث وُلد في نفس اليوم الفظيع، وبَقِيَ مصير والده مجهولا يبحث عنه بين رُفات المقابر الجماعية والتباسات ما بعد الفاجعة، وهل الاشتباك بينه وبين مسعود، هو رغبة مشتركة في الشفاء من ذكرى نكّدت الوجود وجعلت السلام الداخلي أمرا مستحيلا لدى الجيل الشاهد والجيل الوليد. هل هذه الرغبة في القتل لدى الشاب العملاق، هي تصفية رمزية للجرح النرجسي الغائر الذي سببه فقدان الوالد يوم أحداث الدار البيضاء 1981، وهل هذه الرغبة المتشابهة لدى مسعود هي تصفية رمزية للجرح النرجسي الغائر نفسه الذي سببه اغتصاب متكرر جناه عليه خال أمه عندما كان طفلا صغيرا قرب العين القديمة في البادية ؟.

ختاما:

لقد تابعنا رواية مكتوبة بحذق ومعمار فني بارع، فيه من الكمائن الجمالية ما يجعل فهم الحكاية لا يتأتى إلا بإعادة قراءة الرواية وإعادة تركيب الأجزاء والمقاطع، لأنها مكتوبة بشكل دائري، تتخلله دوائر أو دوامات سردية تجعل الرواية شبيهة بالحياة، حفية بالتناقضات المتكاملة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق