
المخ والذاكرة وأسرارهما …!
د. علي عفيفي
نتعرض كل يوم إلى العديد من الأحداث والمؤثرات، ولكننا لا نتذكر إلا القليل منها، فلماذا إذن نتذكر بعض الأحداث بكل دقة وننسى البعض الآخر تماماً؟ من المعروف أن التعرض للمؤثرات المختلفة (مثل سماع كلمة أو رؤية صورة) يسبب نشاطاً كبيراً في منطقة الفص الصدغي الأوسط في المخ (ال Medial Temporal Lobe) وخاصة في مركز الذاكرة والتعلم ال (hippocampus)، وأن هذا النشاط الذي يحدث بعد التعرض لمؤثر هو المسؤول عن تذكر ذلك المؤثر بعد ذلك1. ولكن ماذا عن حالة المخ قبل ذلك؟ هل يحتاج المخ إلى الدخول في حالة معينة من الاستعداد قبل التعرض لمؤثر ما حتى يستطيع أن يتذكر ذلك المؤثر في وقت لاحق؟
للإجابة على هذا السؤال، قام فريق من العلماء عام 2006 بعرض مجموعة من الكلمات أمام بعض المتطوعين، وقبل كل كلمة تم إعطاء المتطوعين إشارة أو تلميح إلى تلك الكلمة التي سيتم عرضها. في نفس الوقت، قام العلماء بقياس النشاط الكهربائي في مخ كل من المتطوعين. كما هو متوقع، وجد العلماء أن نشاطاً كهربائياً يحدث في المخ بعد عرض الكلمات، وكلما زاد ذلك النشاط كلما زادت احتمالية تذكر تلك الكلمات. إضافة إلى ذلك، لاحظ العلماء نشاطاً كهربائياً عاماً يحدث في المخ قبل عرض الكلمات، ويمكن من خلال قياس ذلك النشاط توقع ما إذا كانت تلك الكلمات سيتم تذكرها بعد ذلك أم لا2. ولذلك يعتقد العلماء أن هذا النشاط الكهربائي يحدث نتيجة التعرض للإشارة أو التلميح الذي يسبق عرض الكلمات، مما يساعد المخ على تذكر تلك الكلمات فيما بعد.
في دراسة حديثة تم نشرها في مجلة PNAS المرموقة، كرر العلماء نفس التجربة ولكن بتعديلات بسيطة. أولاً، تم اجراء التجربة هذه المرة على 34 متطوعاً من المصابين بالصرع. ثانياً، استخدم العلماء أسلاكاً دقيقة لقياس النشاط الكهربائي الذي يصاحب عرض الكلمات وتحديد مصدره في المخ بكل دقة. وجد العلماء هذه المرة أن نشاطاً كهربائياً يحدث قبل عرض الكلمات في مركز الذاكرة والتعلم (ال hippocampus)، وأن هذا النشاط يكون أقوى في حالة الكلمات التي يتم تذكرها من الكلمات التي يتم نسيانها، مما يعني أن مركز الذاكرة والتعلم يحتاج للدخول في حالة من الاستعداد حتى يصبح قادراً على حفظ المعلومات واسترجاعها بعد ذلك. المثير في الأمر هو أن أي نشاط في مناطق المخ الأخرى لم يكن له أي دور في تذكر الكلمات3.
ماذا يعني كل ذلك إذن؟ لزمن طويل، ساد الاعتقاد بأن المخ لابد أن يدخل في حالة عامة من التركيز حتى يستطيع التعلم وتذكر المعلومات، ولكن هذه الدراسة الحديثة تثبت أن المخ لا يحتاج إلى ذلك التركيز العام ولكن فقط إلى حالة محددة من الاستعداد يزيد فيها نشاط مركز الذاكرة فقط دون باقي أجزاء المخ. هل نستطيع إذن أن نجبر أنفسنا على الدخول في هذه الحالة؟ يعتقد العلماء أننا ربما نقوم بذلك بالفعل دون أن ندري، ولكن لا أحد يعلم كيف على وجه الدقة. سيتطلب الأمر المزيد من الأبحاث للوصول إلى الطريقة الأمثل لتحفيز عملية التعلم واسترجاع المعلومات. حتى ذلك الحين، عندما تطلب منك والدتك أن تجلس للمذاكرة بدلاً من مشاهدة مباراة لفريقك المفضل، قل لها فقط أن مركز الذاكرة والتعلم في عقلك ليس مستعداً للحفظ في الوقت الحالي.
مصادر
Wagner A. D., et al., Building memories: Remembering and forgetting of verbal experiences as predicted by brain activity. Science, 281, 1188–1191 (1998).
Otten, L. J., Quayle, A. H., Akram, S., Ditewig, T. A., Rugg, M. D. Brain activity before an event predicts later recollection. Nature Neuroscience. 9, 489–491 (2006).
Urgolites, Z. J., et al., Spiking activity in the human hippocampus prior to encoding predicts subsequent memory. PNAS (2020). doi.org/10.1073/pnas.2001338117