ثقافة وفن

نهاية عصر البطل!

عماد البليك (كاتب وروائي سوداني)

أتحدث عن البطل بوصفه مخلصا وصورة ذهنية لقدوة حسنة يحاول الناس استلهامها في حياتهم ليصنعوا من خلالها أو يتعلمون منها صورهم الذاتية للأمل والإلهام الذاتي. هذا البطل الذي شغل مساحات واسعة من التاريخ الإنساني وعلى مدى طويل. إذ طالما ظل حاضرا ومؤثرا بشكل واضح. صورة مثلا كصلاح الدين الأيوبي أو الظاهر بيبرس أو في العصر الحديث أناس أمثال نيلسون مانديلا أو غاندى أو جون قرنق.

هذا البطل انتهى. أو ربما كان حضوره في الأساس مترتب عن ظروف عصر معين. أو أيضا التخيلات التي نسقطها على التاريخ والوقائع بأن نرى أحيانا ما لم يحدث. بحيث نصب أحلامنا وتوقعاتنا حول كاريزما معينة نرى فيها الخلاص الأبدي لكافة ما نعانيه من إشكاليات في الحياة.

الحديث عن سقوط البطل بوصفه النموذجي والكلاسيكي ليس حديث اليوم بل أن طرحه تم منذ سنوات طويلة، لكنه اليوم يتعزز أكثر وبدرجة واضحة من خلال عصر الافتراض والشبكات حيث يذوب الفرد في المجموع وتتلاشى الحدود الفاصلة بين الأشخاص المؤثرين بوصفهم نخبة كما جرى العرف سابقا والناس الذين يسمون بالجمهور أيضا في الأعراف القديمة.

اليوم لا يمكننا أن نتحدث عن مركز للمعرفة أو التلقي أو نقطة إشعاع معينة ينبعث منها الخير كله، أو الشر. حتى فكرة الشيطان التقليدية تم تفتيتها في نوازع البشر والتوحش الجديد الذي يعكس مرحلة بعد ما بعد حداثة الغرب، حيث باتت أوروبا نفسها تطارد ذاتها بأسئلة ما بين اليمين واليسار.. ما بين البحث عن الجذور الضائعة والأمل في صياغة مستقبل غير واضح تماما. 

كثير من القيم والأشياء والمراكز من حولنا تهتز. السرديات الكبرى والميثولوجيات التي شكلت تاريخ العالم والوجود الإنساني وتاريخ هذا الكوكب لقرون طويلة هي محك سؤال وجدل واستفهام، وقد غطاها غبار كثيف يتطلب عمل مبذولا بأقصى الطاقات في سبيل تحقيق شيء ما.. شيء جديد غير مسبوق وغير مرتهن للقصص المتوارثة والحلول المعتادة. وفق قانون آخر يتشكل في الأفق اسمه الابتكار والمعارف والفضاءات الجديدة. وهو قانون برغم مساحة حركته المتسعة إلا أنه غير واضح إلى الآن، أو ما الذي سوف يفضي إليه بالضبط.

هذه الحركية التي تفرض شكلها وتأثيرها على الذهن البشري والأنماط الاجتماعية والثقافية في الحياة المعاصرة، كان من نتاجها اهتزاز صورة البطل التقليدي أو سقوطها، لقد شاهدنا في ثورات ما عرف بالربيع العربي أنه لا وجود لبطل محدد كان هناك ما يعرف بالفضاءات العامة للتغيير، وليس إنسان بعينه أو فكرة لحد ذاتها. مثلا كان الكلام يدور عن الفيسبوك والوسائط الذكية ودورهما.

فهل هم هؤلاء الأبطال الجدد في عالم اليوم؟

وهل هم أبطال افتراضيون يعملون على جمع الناس حول هوية وفكرة واحدة ورسالة بعينها ويؤدون الدور نفسه الذي كان يلعبه أو يقوم به البطل التقليدي؟

اليوم يرى البعض أن المفهوم التقليدي للمخلص أو الثائر قد انتهى، فليس في عالم اليوم كائن منتظر ليعمل على تعديل العالم، إذ لابد للمجموع أن يحرر الفرد.. والعكس صحيح. وهذا الفرد لن يكون شخصا بعينه يشار إليه بالبنان.. فأبطال اليوم إن وجدوا ليسوا على شاكلة الأمس القريب، أي فترة الثورات التحريرية من الاستعمار وتبعاته، فهم اليوم جماعات يصعب القبض على هويتها أو من صنعها بالضبط، أحيانا تنمو سريعا وكأنها بدون مقدمات.

في الواقع فإن البدايات موجودة لكنها في طبقات لم تكن مكتشفة أو ملاحظة مع تداخلات المعرفة الكثيفة وصعوبة القبض على مصدر القرار أو المعرفة. فإذا كان هناك مثلا من يرى أن “الربيع العربي” أنطلق من تونس جراء حرق البوعزيزي لنفسه غضبا على الفقر وتمردا على القيم الاقتصادية وغياب العدالة، فإن البوعزيزي ليس هو البطل الافتراضي بقدر ما هو الصورة الإلهامية التي عمل الكثيرون على إنتاجها في أذهانهم لاحقا وبعد وقت وجيز، بفعل تسارع العالم اليوم.

إن الحديث عن نهاية عصر البطل، الذي يقود التغيير والثورات وينتج القيم الاجتماعية الجديدة ويمارس النقد اتجاه التقاليد والمفاهيم، لا يعني الاستغناء عن القدوة أو المثل الأعلى الملهم، فبعيدا عن هذه الصيغة المعقدة بعض الشيء في تحليل وتفكيك فكرة البطل على مستويات متشابكة في المجتمع الحديث، فنحن في حاجة إلى القدوة أو النموذج الحسن على مستويات بسيطة سواء مجتمع الحي أو القرية أو البلدة الخ.. إلى المجتمع المدني في المدن الكبيرة.. وهذا النموذج يلعب كل فرد دورا فيه، وهنا يتجزأ مفهوم “القدوة” ليكون كل إنسان مشارك بلمحة من لمحاته، فإذا لم انتفى ذلك الإنسان الذي يشكل الصورة الذهنية الكبيرة “البطل” فلابد من استخدام التشارك في صناعة هذه الصورة بأن يقدم كل فرد جانبا من اللوحة، عبر تخصصه أو مجاله وخبرته، وهذا بات يحدث فعليا عبر الوسائط الحديثة بأن يشارك الكل في نقل المعارف والأخبار والتحليل. لكن هذه العملية لا تتم بشكل منظم أو بغير تأسيس للوعي بحيث يدرك العقل ما الذي يقوم به من دور وهدف وغاية.

إن الحاجة إلى تنظيم عملية البطولة في المجتمعات، ورفدها بالإشارات التي تساهم بانطوائها في المجموع ومشاركة الكل، يعزز من جانب المسؤولية الاجتماعية والكلية، بعد أن أصبح المجتمع لا يفكر في مفردات كالمسؤولية والقدوة والمستقبل والمثل الحسن، حيث ينظر الأغلبية بشاكلة “رزق اليوم باليوم”، وهو منهج غير استراتيجي ومستقبلي ولا يساهم في موضعة الإنسان في العالم بالشكل المثمر.

إن غياب التخطيط للحياة والنظرة الفاحصة المتأملة للأشياء، كل ذلك يحدث لأن الحياة باتت شظفة وتضيق على الناس في المعاش اليومي وتدبير أمور الرزق، لكن لا يأس فالحياة بمثلما هي مسكونة باللحظات الصعبة فيها أيضا لحظات الفرج وفيها الانتصار الذي يتحقق من خلال الوعي وتجسير المسافة بين الواقع والراهن والأمل. وهذا لا يحدث إلا بفهم جديد يقوم على زرع المزيد من فرص التفاؤل في النفوس البشرية، بعيدا عن البحث عن مخلص بعينه سيكون له أن يوجد الحل. غير أن هذه الرحلة لازالت في مجتمعاتنا تتطلب بعض الوقت وربما الكثير. لا ندري. حتى نعمل على غربلة ممارسات تقليدية ومتوارثة في فكر التقديس الأعمى أحيانا لكثر من تفاصيل قد لا يكون لها أثر ولا معنى إلا في حدود التخييل والوهم.

على الأقل مبدئيا لنساهم في إطار القدوة الاجتماعية كل في مكانه وموقعه، فالقدوة على مستوى الشأن العام موجودة في طبقات أخرى غير المعروفة سلفا. في انعكاسات وتجليات فكرية وتمثلات لفعل الخير بطرق غير نمطية مثلا: عبر الأعمال التطوعية والمنظمات الجديدة التي لها أن تنهض بالشباب وتغير في سلوكهم وتحفزهم للفاعلية في الحياة الاجتماعية، وبالتالي تعزز دورهم نحو شعوبهم في المساهمة بالخروج من براثن الألم إلى التحرر من العبودية والتناحر، لتنهض تلك الشعوب إلى المستقبل، وهذا هو المرتجى.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. يسعدني متابعة منشوراتكم المفيدة والتي تسهم في اثراء المعرفه والثقافه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق