ثقافة وفن

أبنوسة ونخلة

إبراهيم حسين ... يعدُّ النجوم ولا يحصي الشجى

أسامة الطيب

بدت على عينيه حمرة السهر، ورسمت الدموع عليها شجماً مستديما، حتى أصبح يداريه بالغناء والنظارة السميكة، السوداء، التي تخفف من وهج الضوء الداخل إليها، وتحدّ من توسلاتها الملتاعة إلى حبيبٍ يطعن ويمضي، فلا تذهب صورته ولا آثار الطعنة ولا تواريخ البكاء الحميد، التي فتحت دروبها للقلب، وعبدّته بالدماء والدموع، ومضى يحدّث همساً حتى لتظنه يخشى يخشى فيضان المحبة من كلماته فتغرق الحضور، ويستجير بنار الغناء عن رمضاء الحديث، يا لبهاء أحزانك، ويا لكبير تهذيبك الذي فضحته الألحان سيدي إبراهيم خليل النجوم، حنيف المحبة، تحملها على كتفك، وتطوف بها، لم تشك يوماً لأحد، ولكنك تغسله بالوجد وتخرج، فتراه في الشارع، وكأن أغنيةً تسير إلى حديقة ورودها الفائحة، وكأن لحناً يعلق بأهداب المارة فيتمايلون في طريقهم، وكسلا تعرف كيف تتلقى ميلهم الحبيب، وهي المدينة المائلة على جبلٍ من حب، ونهرٍ من عسل المحبين يجري من تحتها (ليه ياشمعة سهرانه؟ زينا يعني بتردي، ولا طريتي زول ناسيكي، في ذكراهو بتعيدي، زيك نحن ياما شقينا، ياما تعبنا ياما وكم، بس نحن بنعاود البسمة، ما بدوم علينا الهم، عشان نحنا بنعيشا حياتنا إشراقة وعبير ونغم، وحاتك بس دي دنيانا، ليه ياشمعة سهرانة؟ ساهرة براك طول الليل، تحرقي في شباب عمرك، لا بيسأل عليك حبيب، لا هاميهوا إيه أمرك، مساكين ما بعرفو الدنيا، شايله صباحا من درك، وما عرفوك إنسانة، ليه ياشمعة سهرانة؟) وبعد كل هذا يستفسر الشمعة عن سهرها! بعد كل نزيف عينيه السائل أمامه على طرقات “غرب القاش” وحريق الشجى في خيوطه المتراقصة بداخله، وهو بعدُ يحفل بسهر الشمعة ويسائلها! لأنه يعلم أنها رفيقة سنوات عمره الفني الشفيفة، مفضوحة الحلم والأمل، بعيدتهما، وقريبة الشهقة والعلة، فمن يسكن “كسلا” يعرف أن الشمعة والنجمة هي مفردات أحواله، وهي شقائق الوله في قصيده، وهي تمائم قلبه وتعويذاته، كما أنها مراويد حريقه المستمر.

(ولد حسين في عام 1941 في مدينة كسلا، شرق السودان، في حي غرب القاش تحديداً، وهو أحد أشهر أحياء المدينة. هناك بدأ مسيرته الغنائية، وانضم لفرقة “أصدقاء كسلا” قبل أن يخوض التجربة وحده. وبدأ سعيه للتأسيس لمسيرته الفنية المستقلة، ثم عمل خياطاً لسنوات محاولاً ادخار مبلغ ماليّ يعينه على الانطلاق بمسيرته.) وظلّ حتى آخر يومٍ في عمر مسيرته الخضراء، المحترقة والحارقة، خياطاً، يفصّل بيديه المشاعر، ويخيط أطرافها وحواشيها بماء الشجن، ثم يلبسها المحبين، مغسولة بالجيب، مكويةً بالدمع، مشغولة بحرير أنفاس العشاق (لو زندك احتمل الندى لكسوت زندك ما يشاء، ثوباً من العشب الطريّ وابريتين من العبير، وخيط ماء) وهل أعظم من “كسلا” من يوجد هذه المادة خرافيه الهوى، وتشعلهما في أصابع “ابراهيم” خليل الوله والشوق وحمى القصائد؟ (بنتلاقى بنتلاقى نتلاقى نتلاقى، وبكرة الشوق يقربنا

واشيلك خاطراً طيب، وغني الفرقة حراقة

وبنتلاقى، بنتلاقى مهما جارت الايام، وشالت بهجة الفرحة، غناوينا وحكاوينا، بشاشة حبنا السمحة، وليلي الصبحو ما لاقى

احسّو يقول بنتلاقى، ونتلاقى) وحتى وإن عزّ التلاقي، فإن الوجدان هطيل المعاني، يبدو متماسكاً، على شتاته البائن، حصيناً، رغم انتكاسات أركانه للداخل، مغتبطاً بلباسه الفصيح، والعالمين يرون عُريه الدامع.

(ثم غيّب الموت “إبراهيم حسين” – وإن لم يستطع ولن – في العاصمة السودانية الخرطوم، عن عمر يناهز 77 عاماً، أنتج خلالها أكثر من 40 عملاً غنائياً، تعاون في أغلبها مع الشاعر إسحق الحلنقي) وهذا هو سرّ الشجى المستديم، فمثلث كسلا، والحلنقي، وإبراهيم، الذي يحيطه القاش من كلِّ جانب، ويطلّ على عرائش معانيه “التاكا” الجبل الوسيم، ويسقيه “توتيل” ماء الحياة والهوى، وتفتح قبة “المراغنة” أبواب نشيدها إلى سماوات النجوى، فتتمشى بين قلبك وشعرات حسِّك الرفيقة، شهوات السُكر وحفيفه في العروق، فتبدو مغمض العين مفتوح الفؤاد، لا تدري أ إلى بحر النشوى تسعى، أم إلى بدر الوله ترتقي؟ وتأتيك عبر آذان الكون من حولك (قالوا الزمن دوار.. يا بسمة النوار، يا ريت تعود أيامنا.. ونكمل المشوار، يا قلبي يا سواح.. قول لي متين نرتاح، دمع الحنين خلانا.. ما بنعرف الأفراح، قالوا الزمن دوار.. يا بسمة النوار

يا ريت تعود أيامنا.. ونكمل المشوار، مهما رحلنا بعيد.. أقدارنا ما في الإيد، و الذكريات يا قلبي تحفظ جميل الريد، قالوا الزمن دوار .. يا بسمة النوار، يا ريت تعود أيامنا.. ونكمل المشوار).

(في السنوات الأخيرة، أصيب “إبراهيم حسين” بجلطةٍ في المخ، أدت إلى شللٍ في يديه، لكن في آخر حواراته الصحافية بدا عاتباً على الكثيرين بسبب الإهمال الذي يعانيه، هكذا حينما سئل في حوار صحافي عن أمله في الحياة، كان رده أن أمنيته الوحيدة، هي أن يتلقى علاجاً خارج السودان، بعدما أقعده المرض عن مواصلة مسيرته الفنية) يا سيدي “إبراهيم الخليل” ظللنا نتلقى وصفاتك، وسماح تحليلك، ونضمّد كثير جراحنا، وشديد انطراحنا على درب الوجع الطويل، لا نكاد نُسلم روح معنىً لقاتليه، حتى تعيدنا معانيك لحياةٍ جديدة، وما نكاد ندفن علاقةٍ تحت أنقاض أنفاسنا الحارة، حتى نستقبل مولود أغنية جديدة، تطرزها بصوتك الشجي وتلبسها يأسنا العاري، فيلتئم ويشفى ويستحيل فألاً أخضراً، ومزارع من أحلام نابتة، مضيت عليلاً يا حبيب شفاء المحبين، وتمنيت لو أنك ذهبت للعلاج للخارج وانت الذي وطّنت العلاج بالداخل، فكلنا كنّا قاب قوسٍ وأقل من علة الشعب كله والبلاد تهترئ أطراف تاريخها، وتتناثر حواف جغرافيتها، فلا نرى، ولا نتكلم، ولا نسمع إلى الحسرة تشدّ بخيمتها تحت سماء الفواجع، فتمضي إلى الله دون نلتقيك او نغنّيك روشتة غناء واحدة وأنت الذي صرفت روشتة عمرك كله لنا كي نضمّد أرواح وجدان الهوى، فغفرانك يا حبيبنا، وحنانيك علينا، فالموت الذي مضيت إليه كان يسكن في بيوتنا دون نرفع شواهدها من فوقنا، حتى خرجنا، للقيادة، وغنينا الحياة من مظانّها ورفعناك على ساريةٍ طاهرة، وعمدّناك “عمدةً” للغناء الفسيح، وكتبنا على نافذة حضورك المستديم (مالك غيابك طول وانا في انتظارك ترجع بطري الزمان الأول، ما من عوايدك انت تتناسا او تتغير،عارفك مسالم قلبك ما برضي لي اتحير، وانا ما شي دربك انت طول عمر بيه مسيّر، دا المستحيل اتحوّل شايف غيابك طول، مستني منك كلمة بس كلمة ما اكتر. يخضّر بيها مصيري عمر المظالم يخسر. ترجع حياتنا الحلوة نلقي الطريق اتنوّر، دايما عليك بنسال ما لك غيابك طول؟) فعد يا حبيب الشمعة والنجوم، من عالمك هذا تجدنا نحتفل معك وبك بالحياة الرافهة ونقاسمها التأمل في سهر النجوم، ونسائلها بلسانك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق