سلايدرسياسة

التوسير و”التُّونسيَّة”، ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

محمد خلف

الدَّلالة، بحسب عالِمِ اللِّسانيَّاتِ السُّويسري، فيردينان دو سوسير، هي علاقةٌ قائمةٌ في العمق بين دالٍ ومدلول؛ وما دام الأمرُ كذلك، فيتعيَّن علينا ألَّا نُقلِّلَ من شأنِ أيِّ طرفٍ من طرفي التَّعريف (أي الدَّال، وهو التَّعبير الصَّوتي أو المكتوب؛ والمدلول، وهو الصُّورة الذِّهنيَّة)؛ وفي الغالب، يكون الدَّال، على أهميَّته القصوى، هو الذي يقعُ ضحيَّة هذا التَّقليل من الشَّأن، إن لم نقلِ الإهمالَ التَّام. فمَن مِنَّا توقَّف قليلاً ليتأمَّل عبارة “وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ” في سورة “هود”، الآية رقم 36؛ أو عبارة  “مَا وَصَّى بِهِ نُوحَاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ” في سورة “الشُّورى”، الآية رقم 13. تنبيهاً لنا جميعاً وتفادياً لهذا الإهمال غير المقصود، ندعو القارئ المُستعجِلَ أن يتوقَّفَ قليلاً أمام الجِناسِ اللَّفظيِّ للدَّوال في الثُّنائيَيْن [“ألتوسير” و”التُّونسية”]، و[مصر والمصير]، ريثما نشرعُ لاحقاً في توضيح الدَّلالة المُستقِرَّة في أحشاء العلاقةِ القائمة بين كلٍّ من هذينِ الزَّوجَيْنِ اللَّفظييَيْن.

نبَّهنا في كتاباتٍ عديدة إلى أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في رفد وتطوير المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة. فالمفهوم الكلاسيكيُّ ينحصرُ في منظورٍ يتناولُ مصطلح “الدَّولة” باعتبار أنَّها أداةٌ (مُستقِلَّة أو طبقيَّة) لتنظيم المجتمع، استناداً إلى الإدارة العلميَّة، ووفرة المال، وقوَّة الجيش والشُّرطة، والتَّحكُّم في أنظمة السُّجون وأجهزة الاستخبارات (وإن أُضيفَ إلى هذه التَّرسانة الأمنُ السِّيبرانيُّ الحديث، فإنَّ الإضافة، على أهميَّتها، لن تخرُجَ بالأداة عن المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة). أمَّا ألتوسير، فإنَّه يؤكِّد على الدَّور الحاسم لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في تصريف شؤون الدَّولة الحديثة؛ وهذه الأجهزة تتمثَّل، حسب نظريَّته، في مؤسَّسات التَّربية والتَّعليم، ودواوين الثَّقافة، وأجهزة الإعلام، ودور النَّشر، والصُّحف والمجلَّات، والمرافق الدِّينية، والأندية الرِّياضية، والتَّنظيم الأُسري.

  

قد يحتلفُ كثيرٌ من علماء السِّياسة مع الفيلسوف الفرنسي، إلَّا أنَّ نشوء الدَّولة الحديثة في السُّودان، مع استكمال الغزو الاستعماري في أواخر القرن التَّاسع عشر، لا يُمكِنُ تفسيرُه إلَّا بعونٍ من نظريَّة ألتوسير؛ بل يُمكِنُ القولُ بأنَّ نظريَّته كان سيطالُها النِّسيان، لولا أن تهيأ لها في دولة السُّودان المصري الإنجليزي وضعٌ نموذجيٌّ للتَّطبيق. فبادئ ذي بدء، كان الحكمُ، بِحُكمِ اتِّفاقيَّة عام 1899، ثنائياً؛ ثمَّ سرعان ما تقاسَمَ الشَّريكان، بِحُكمِ الخصائص المتوفِّرة لدى الطَّرفين، أعباء السَّيطرة على البلاد. فاضطلع الشَّريكُ الأضعف بمهامِّ التَّرجمة، وكتابة المنشورات باللُّغةِ العربيَّة، والتَّعليم في المدارس الابتدائيَّة، والإشراف على المساجد، وإقامة المناسبات الدِّينيَّة (المولد والأعياد)، وتنظيم الفرق والأندية الرِّياضيَّة. هذا، بينما سيطر الحاكم العام، بسكرتيرَيْهِ الإداري (الذي كان بمثابةِ رئيسٍ للوزراء) والمالي، على أجهزة الدَّولة الكلاسيكيَّة (بدون تدخُّلٍ منه يُذكَرُ في إدارة أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة).

حاولنا التَّدليل في مقالاتٍ سابقة على قدرة الشَّريك الأضعف على التَّأثير بانتشارِ الكلمات الفرنسيَّة التي لا مُبرِّرَ لوجودها إلَّا لأنَّ لغةَ بلاد الغال (فرنسا وبلجيكا) قد أتت إلى مصرَ مع حملة نابليون الشَّهيرة، ومنها إلى بلاد السُّودان، عن طريق الشَّريك المهيمن على أجهزة الدَّولة الاستعمارية الآيديولوجيَّة. وبالرَّغم من أنَّ الكاتب الرِّوائي الكبير، الطَّيِّب صالح، قد استهجنَ في إحدى زياراتِه إلى السُّودان وجودَ لافتةٍ في مطار الخرطوم مكتوباً عليها ترحيباً باللُّغة الفرنسيَّة “بيا(نْ)فينو”، إلى جانب التَّرحيب باللُّغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، إلَّا أنَّ الكلمات الفرنسيَّة المُستخدَمة في العامِّيَّة العربيَّة في الخرطوم لا حصرَ لها. على سبيل المثال، يستحِمُّ شابٌّ أنيقٌ من ساكني الأحياء الرَّاقية بصابونٍ (“سافون”، وليس “سوب”)؛ ويرتدي قميصاً (“شيميز”، وليس “شيرت”)؛ وبنطلوناً (“بنتالون” بالمفرد، وليس “تراوزرز” بالجمع)؛ ويجلس هُنيهةً على الصَّالون (“سالون”، وليس “ليفينغ روم”)؛ ليتناولَ كأساً من الأناناس (“أناناس”، وليس “باينابل”)؛ قبيل أن يخرج، فتطأ قدماه الرَّصيف (“تروتوار”، وليس “بيفمنت”).

إلَّا أنَّ ما ذكرناه هو مجردُ عددٍ من الكلمات؛ وكنَّا نبحثُ عن عباراتٍ أو جملٍ كاملة، حتَّى نستيقنَ من صِحَّة ما نقول؛ وما كان يقفُ أمام طريقنا غيرُ نضوبِ المعرفة باللُّغة الفرنسيَّة وقلَّةِ المتعاونين معنا في هذا الشأن، على كثرةِ خرِّيجي شُعَبِ اللُّغةِ الفرنسيَّة بجامعاتِ البلاد، وازديادِ عددِ المستوطنين السُّودانيين بالمدنِ الفرنسيَّة. إلى أن ظهرت معضلةُ “التُّونسيه”، في عبارة “رِكِب التُّونسيَّه” الدَّارجة، والمُنتشِرة في دردشات الإنترنت. وهي عبارةٌ عن عربةِ “كومر” قديمة لشرطة الخرطوم، مكتوباً على واجهتها كلمة “التُّونسيَّه”؛ وكان يُظنُّ أنَّ المقصود بهذه الكلمة شركة الطَّيران التُّونسيَّة، إلَّا أنَّ ما يُكذِّبُ هذا الظَّنَّ هو أنَّ طائرات الخطوط الجوِّيَّة التُّونسيَّة قد اشتُهِرت بحُسنِ أدائها ونظافتها، وهذه عربةٌ مهترئة لنقلِ المعتقلين بواسطة الشُّرطة العاصميَّة؛ كما أنَّ العبارة تُستخدَمُ كنايةً عن “وقوعِ المرءِ في شرِّ أعمالِه”، وليس كنايةً عن تمتُّعه برحلةٍ مريحة تُسيُّرها شركة طيران عربيَّة مرموقة.

وتفسيرُنا، وهو ما نعتبرُه “دليلاً دامغاً” (إسموكينغ غن) يأتي من التَّأثيرِ المنسيِّ للُّغةِ الفرنسيَّة في السُّودان، باعتبارها عنصراً مُكوِّناً لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة، التي تسرَّبت بشكلٍ ناعمٍ إلى عاصمةِ البلاد عبر حاملها الأساسي، وهو الشَّريكُ الأضعف في الحُكمِ الثُّنائي لبلاد السُّودان. فالعبارة هي في الأساس جملةٌ فرنسيَّة في غايةِ التَّعقيد، لا يلمُّ بها إلَّا من خَبِرَ دروبَها النَّحويَّة الشَّائكة؛ ونحنُ لا ندَّعي لأنفسِنا هذه المعرفة العميقة، ولكنَّا كمواطنينَ محظوظينَ ببلوغِنا الرُّبعَ الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، قد استعنَّا بمجهوداتٍ مُدَورَنةٍ (إيفولفد) من غوغل. ضمير الجمع للغيبة (إل) باللُّغةِ الفرنسيَّة يُشيرُ إلى الذُّكور، وهو ما يَلقَى تغضيداً باضطلاع الرِّجال بالخدمة الشُّرطيَّة في العاصمة المثلَّثة؛ والضَّميرُ الشَّخصيُّ المُدغم (تـ”و”)، قد استُخدِمَ عِوضاً عن (“فو”)، إمعاناً في الازدراء بالمقبوض عليهم وإهانتهم بالمخاطبة غير الرَّسميَّة؛ والحرف المدغوم (“تـ”) مع “أو(ن) الأنفيَّة” يُصبح “تون”، بمعنى يحتفظون بكم لديهم؛ والظَّرف (“سي”)، بمعنى هكذا؛ لِتُصبح الكلمة (الجملة الفرنسيَّة الكاملة) على واجهة العربة “التونسيه” (بدون تاء مربوطة، إشارةً إلى وجود مدَّة بعد الياء)، بمعنى، “سيرمون بكم في هذه العربةِ هكذا”؛ ولِتُصبح عربة الكومر، وليس شركة الطيران “التُّونسيَّة”، “ضبطيَّةً” أو “حراسةً” متحرِّكة يُوضع بها معتقلون، لا براءةَ لهم إلى أن تتمَّ إدانتهم (حسب القاعدة الجنائيَّة المُتَّبعة)، فهم مُدانونَ ومرذولونَ مُسبقاً بالعبارةِ الفرنسيَّةِ الجارجة: “التونسيه” (فالهمزةُ التَّحتانيَّة لا يحفلُ بها أحدٌ؛ وهو ما جرت عليهِ العادةُ إلى وقتِنا هذا، مع توفُّرِ كلِّ التَّسهيلاتِ اللَّازمة في لوحاتِ المفاتيح “الكيبوردات” الحديثة).

سنحاول أن نُكمِلَ التَّحليل بالتَّركيز على الثُّنائية الأخرى في حلقةٍ مُقبِلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق