
نظرة جديدة لتاريخ الحكم الثنائي: السودان الإنجليزي – المصري بين 1934 و1956 (٢)
Gabriel Warburg جبريل واربورج
تقديم وترجمة: بدرالدين حامد الهاشمي
كانت آراء دالي عن سياسة “الحكم غير المباشر” سلبية على وجه العموم، لسببين هما الفساد وقلة الكفاءة. وكانت تلك السياسة تقوم على أن “شرور التحديث” ستدمر السودان كما دمرت مصر والهند والمستعمرات الأخرى. وكان مما سهل الطريق للبريطانيين لتبني سياسة “الحكم (القبلي) غير المباشر” المزايا المالية لذلك النظام، إضافة لارتباطهم الرومانسي التقليدي بالحياة الريفية ومزاياها، خاصة حياة الترحال المستمر عند رجال القبائل”. غير أن دالي ذكر – محقا – أن ذلك النوع من الحكم لم يطبق بصورة شاملة، إلا في دارفور والجنوب، بسبب أن الكثير من سكان السودان كانوا من ضمن ممن يصنفون على أنهم “منبتين قبليا”. وكان سكان دارفور والجنوب أكثر المتضررين من تلك السياسة. وغدت سياسة “الحكم غير المباشر” (التي بدأت مشجعة ومتفائلة أو على الأقل واعدة) وصفة لارتباك وركود شديدين (قارن كاتب المقال هنا رأي دالي السالب عن سياسة “الحكم غير المباشر” برأي فرانسيس دينق الذي يعد تلك السياسة أفضل بكثير من البيروقراطية المركزية التي أدخلت عقب الاستقلال. المترجم). وكان المناصرون بشدة لسياسة “الحكم غير المباشر” يرفضون أي محاولة (حتى لو كانت رمزية) لإشراك المتعلمين من السودانيين في ذلك النوع من الحكم، ويحرصون على تقوية دور القوى التقليدية الطائفية أكثر فأكثر. ومع مطلع عام 1935م بدأت الحكومة في إيقاف العمل بتلك السياسة، عدا في دارفور والجنوب (التي لم تكن لهما القدرة المالية على تبني سياسة بديلة). غير أن حكومة السودان اضطرت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لتعيين عدد من السودانيين في وظائف كان يقوم بها بريطانيون، وبذا فتحت المجال لكثير من الخريجين كانوا سيبقون من العَوَاطِل، وحفزت النقاش حول دور السودانيين في حكم بلادهم. وقاد سير دوقلاس نيوبولد (الذي شجع على قيام مؤتمر الخريجين في عام 1938م) السياسة الجديدة القاضية بإدخال السودانيين في الإدارة في وظائف مساعدي مفتشين ومآمير وبوظائف عليا في مكتب السكرتير الإداري. وخلافا لآراء بعض زملائه، كان نيوبولد يرى أن الحرب لا ينبغي أن تستخدم كذريعة لإيقاف مسيرة التعليم أو الحكم الذاتي، بل يجب الإسراع بالسودنة، وعدم الاستجابة لضغوط الانتليجستيا. غير أن ضغوط العمل وتوتره والمعارضة في داخل القسم السياسي أبطأت من تلك المسيرة. وذكر دالي أن ما خُطط له من سودنة في عام 1946م كان القصد منها استرضاء السودانيين، و “من أجل منع تسلل المصريين” (صفحة 253). غير أنه بنهاية عام 1952م لم يكن هنالك من السودانيين سوى 9 مفتشين (من جملة 57)، ولم يتقلد قَطّ أي سوداني وظيفة مدير أو نائب مدير مديرية. وكان هذا أقوى وأوضح اتهام يمكن توجيهه لسياسة “الحكم غير المباشر”.
وانطلقت الحركة الوطنية السودانية بين عامي 1934 – 1940م على خلفية طبقة الموظفين البريطانيين الذين كانوا ينعمون بحياة منعمة – نسبيا – في وسط سكان البلاد البدائيين المعوزين. وأقتطف دالي في كتابه فقرات عديدة من مذكرات ناشئة المفتشين البريطانيين ورسائلهم الشخصية ليثبت مدى بعدهم عن حقائق السودانيين الذين عُهد إليهم بتولي مصائرهم. وبالإضافة لذلك أوضح دالي عدم ثقة أولئك المفتشين البريطانيين في صغار الأفندية السودانيين الذين كلن التعليم قد منحهم شعورا زائفا بالمساواة. ولم يكن اختلاط المسؤولين البريطانيين بالسودانيين (أو حتى الأوربيين الآخرين) أمرا مرفوضا أو غير مرحب به رسميا، بل كان الاختلاط بهؤلاء من الأمور التي لا تخطر لهم على بال أصلا. غير أن أولئك المفتشين كانوا دوما يبدون إعجابهم بسكان الأرياف البسطاء، ولكنه كان إعجابا رومانسيا لا يقيم وزنا لحقائق الحياة.
وبالإضافة إلى الفصل بين الموظفين البريطانيين والسودانيين، كانت هنالك أيضا نظرة الازدراء التي كانت واضحة عند موظفي القسم السياسي تجاه “الأفندية”، الذين كان البريطانيون يعدونهم “أشْباه متعلمين”. لذا فنظرة البريطانيين المضادة للحركة الوطنية ليست مستغربة البتة. ونقل دالي عن مدير مديرية دارفور (1934- 1944م) قوله: “لقد تمكنا من قصر التعليم على أبناء زعماء وشيوخ القبائل … ونأمل في ثقة كبيرة أن نُبقي الطبقة الحاكمة على قمة شجرة التعليم لسنوات عديدة قادمة” (صفحة 255). وكان البريطانيون “يعدون أبناء الزعماء والشيوخ مأموني الجانب بالمقارنة مع أبناء التجار الشُطّار، لذا فقد حرموا الأخيرين من التعليم” (صفحة 107). وكان ذلك التوجه هو أهم ما أُخذ على القسم السياسي لحكومة السودان وأقسامها الأخرى. وكان واضحا أن هنالك فجوة كبيرة لا يمكن ردمها بين الحكام والمحكومين، تمثلت في اختلاف اللغة والثقافة والدين، والطبقة، ولم تفلح إلا قلة قليلة – تعد على أصابع اليدين – من البريطانيين والسودانيين في النفاذ إلى دائرة الآخر. ولم تسلم تلك القلة من اللوم أو التهكم، فالبريطاني قد يصفه بني جلدته في سخرية بأنه “متشبه بالأهالي going native”، وقد يُتهم السوداني بأنه “خائن لبني وطنه العزيز”.
لقد كانت للعلاقة بين حكام مصر وبريطانيا تأثير كبير على السودان في غضون سنوات الحكم الثنائي. وكانت العلاقة بين البلدين في أوجها بين أعلى مسؤولين بريطانيين في السودان ومصر، وسايمز في الخرطوم (1934 -1940م)، ولامسون بالقاهرة (1934 – 1946م) (3). وكانت وزارة الخارجية البريطانية سعيدة بترك كل شؤون السودان لـ “حكمة وحسن تقدير الحاكم العام والمفوض السامي البريطاني لمصر والسودان”. ولم تكن للمفوض السامي البريطاني لمصر رغبة كبيرة في التدخل في شؤون السودان، وكان يعده “دولة مستقلة”. لذا صارت إدارة السودان تحت إدارة الحاكم العام بصورة كاملة. وكان دالي شديد الاقتناع بأن السودان كان هو السبب في فشل الاتفاق بين مصر وبريطانيا قبل عام 1936م. وتم تأجيل حسم قضية ما أقترضه السودان من مصر حتى وقت آخر حتى لا تؤخر تلك المسألة توقيع تلك الاتفاقية في 26/8/1936م (4). وقد حُسم أمر تلك الديون عام 1938م بطريقة دلت على خضوع مصر لما تريده بريطانيا، إذ وافقت مصر – ببعض التأبي – على تخفيض ديونها إلى 6 مليون جنيه مصري (مما يعني تنازلها عن طلبها رد قيمة الإعانات والمساعدات التي قدمتها للسودان له قبل عام 1913م (صفحات 53 – 58). وأثارت تلك الاتفاقية الكثير من الاحتجاجات في مصر ضد بريطانيا، وعدها البعض “خيانة” من حزب الوفد.
ولم تبدأ المفاوضات بين بريطانيا ومصر لتعديل اتفاقية 1936م إلا في أكتوبر من عام 1946م، بعد اندلاع مظاهرات دموية عارمة في مصر أفضت لتغيير الحكومة. وصادف ذلك وصول حزب العمال للحكم في بريطانيا. وخشي أفراد القسم السياسي لحكومة السودان من أن تقوم بريطانيا بخيانة السودانيين و”بيعهم” من أجل الاحتفاظ بحق إدارة قناة السويس. لذا سعوا لنيل تأييد السودانيين ضد الدعاوى المصرية بالسيادة على السودان. وفي مفاوضات أكتوبر عام 1946م التزم بيفن (وزير الخارجية البريطاني) بالانسحاب من مصر، ولكنه لم يكن مستعدا للخروج من السودان، إذ كان يؤمن بأن استقلال السودان (في ذلك الوقت) ليس من مصلحة السودانيين، إذ ليس بمقدورهم البقاء مستقلين، وكان يخشى من اتحادهم مع مصر، لأن ذلك قد يضر بمصالح بريطانيا. ورغم أن الاتفاق الذي أفضت اليه مفاوضات 1946م أقر بـ “سيادة مصرية” لملك مصر على السودان، إلا أنه أثبت، لأول مرة، موافقة مصر على حق السودانيين في حكم ذاتي يقودهم لتقرير مصيرهم. وأخفق هيدليستون وروبرتسون (من وفد حكومة السودان) في محاولتهما إزالة تلك الفقرة التي تذكر الـ “سيادة مصرية” لملك مصر على السودان، بينما صرح صدقي باشا (رئيس الوفد المصري) للصحفيين المصريين بأنه أفلح في “إعادة السودان لمصر” (5). وأهاج ذلك التصريح العديدين في السودان، خاصة حزب الأمة، الذي دعا أنصاره للجهاد ضد مصر وبريطانيا (على حد سواء). وأضطر صدقي للاستقالة من رئاسة الوزارة المصرية في ديسمبر 1946م بعد رفض البرلمان المصري للاتفاقية، ولم تتم الموافقة على تلك الاتفاقية المُرْبِكة العسيرة المنال إلا بعد الثورة المصرية حيث وقع عليها أنطوني إيدن ومحمد نجيب في فبراير من عام 1953م بشروط أسوأ (من وجهة النظر البريطانية) من تلك التي وقع عليها صدقي وبيفن عام 1946م. وكان من رأي دالي أن تلك الاتفاقية تُعد معلما بارزا (في تاريخ السودان)، إذ أنها ساهمت في أن يعمل السودانيون بصورة موحدة، وفي هزيمة سياسة بريطانية امتدت لسنوات. واعتبر روبرتسون ورفقاه في القسم السياسي لحكومة السودان أن تلك الاتفاقية مثلت نهاية كل مجهوداتهم، واتهموا بيفن بخيانة السودانيين. وحاولت حكومة السودان إدخال ضمانات لجنوب السودان في تلك الاتفاقية. ووافق حكام مصر الجدد (مثلهم مثل الوفديين والملك فاروق) على إعطاء السودانيين حق تقرير المصير مفترضين أنهم سيختارون الاتحاد مع مصر. وبدا ذلك واضحا في مذكرات الرئيس نجيب (كلمتي للتاريخ)، وفيما قاله كثير من الساسة والزعماء المصريين والسودانيين. وزعم هؤلاء جميعا أن “مصر فقدت السودان” بسبب سياسة عبد الناصر الديكتاتورية. ولام كثير من السودانيين عضو مجلس قيادة الثورة المصري صلاح سالم على معاملته الاستبدادية لهم، ولاستخدامه الواسع للرشاوى لكسب أصواتهم، وأيقنوا بأن السياسة المصرية في السودان هي التي هُزمت (بأكثر من السياسة البريطانية) في عامي 1954 و1955م.