ثقافة وفن

الكمامات رمز جديد لعصرنا التاجي (١)

يخفي تحته الأساطير والتمثلات

عبد العزيز كوكاس

“سكت الدهر زمانا عنهم 

ثم أبكاهم دما حين نطق” المعتمد

بن عباد

ها قد أصبح العالم كله مقنعا.. أينما وليت وجهك ثمة أقنعة صحية تحجب الجزء الأكبر من وجهنا، تحولت الكمامات إلى هوية كونية لعصرنا، في عز احتفاء الإنسان ب»الأنا» يضطر لإخفاء ذاته وهو ما يعني أن الفيروس التاجي قد وشم جسدنا ونفوسنا، فيما يشبه الجرح النرجسي.. واقتضاء بما أورده الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس في كتابه «طريق الأقنعة»، فإن الكمامات ستغدو أسطورة عصرنا الجديد، ستخفي تحت طياتها طبقات كثيفة من الحكايات والأسرار والتمثلات التي سيأتي بعدنا من يشرح زمننا، وما يخفيه القناع الصحي الذي نرتديه اليوم بسبب فيروس كوفيد 19 من خوف ورعب وقلق، وكيف انتصبت الحواجز بين البشر بسبب رهاب عدوى فيروس غامض ومخاتل هزمنا أكثر مما فعل الموت الطبيعي والزلازل والبراكين.. كائن مجهري يستقر على الأسطح الصلبة، ينتقل عبر الهواء مع رذاذ الأفراد المصابين، لا نعرف عنه الكثير سوى أنه جعلنا نكف عن الثرثرة ونرتدي أقنعة مثل المهرجين وسرّاق المنازل ولصوص البنوك، والمشاركين في الحفلات التنكرية الباذخة، والممثلين القدامى والمحاربين الذين كانوا يرتدون أقنعة حيوانات شرسة لإرهاب عدوهم..

الكمامة. ال»بيرسونيا» المزدوج لكل وجه منا

هذه المستطيلات القماشية البيضاء والزرقاء، والتي ستصبح بألوان زاهية مع انتهازية شركات الموضة، جعلتنا مثل طائر البجع المتكتم كما في الثقافة الإنجليزية أو الكلاب الشرسة أو الدواب المكممة كما في الثقافة العربية، أصبحت لصيقة بنا، هي وشم عصرنا الكوروني.. بعد أن أغرقنا العالم بثرثرتنا الزائدة عن اللزوم، ها هو فيروس مجهول المنشأ وغير مرئي يخرس البشرية.. كأن الكون كله يخاطب الإنسان اليوم: اصمت لأراك!

لقد أصبحنا بوجه مركب، الوجه المزيف «بيرسونيا» الذي قال كارل يونغ مؤسس علم النفس التحليلي إن كل شخص يرتدي قناعا مخاتلا يبرز به أمام المجتمع لإخفاء وجهه الحقيقي وشخصيته الطبيعية، وأن عدم التوافق بين القناع الفردي والمجتمع هو مصدر كل الاختلالات النفسية، وها نحن نرتدي قناعا قماشيا فوق قناع نفسي!

أصبحنا «بيرسونيا» مركبة أو مزدوجة.. نسير في الساحات العامة بقناعين، القناع النفسي الذي وصفه بدقة العالم يونغ وكمامة الوجه التي فرضها علينا فيروس كورونا المستجد، غير أن الوجه الأول طبيعي وجزء من ذاتنا، نقدم نسخة مبالغ فيها عن أنفسنا ونأمل أن يكون لها انطباع جيد عند الآخرين.. الشخصية التي نعرضها في مهنتنا ليست هي نفسها في المنزل.. في الأماكن العامة نرتدي قناعًا نفسيا، حتى نتمكن من فرض صورة مرغوبة فيها لأنفسنا عند الآخرين.. ومن ثم، فإن الغرض المميز للشخص هو إخضاع كل الحوافز والاندفاعات والعواطف البدائية التي لا تعتبر مقبولة اجتماعيًا، والتي إذا خضعنا لها سنصبح مثل حمقى، وكل منا يشارك في التظاهر بأن كل هذا حقيقي ليستمر المجتمع على وجه عادي.. فيما الوجه الثاني، الكمامة أو القناع الصحي هو إجباري لا حرية في اختيار هذا الوجه المزيف، القلق، المرتاب.. هكذا غدونا بقناع مزدوج أو مركب، من سيتضخم على حساب الآخر: القناع النفسي أم القناع الصحي الذي أخذ يبدو اليوم أنه جزء من جسدنا الاجتماعي؟ رمزً مشحونً بالدلالات والإيماءات، قطعة لا مندوحة عنها مضافة إلى باقي أكسيسوارات لباسنا.. عند الملثمين الطوارق يبدو الشخص غير الملثم كما لو أنه لم يستر عورته، في شرق وجنوب آسيا، إذا لم ترتد القناع الصحي وسعلت في الشارع العام، تعتبر غير مهذب..

كلنا اليوم أشبه ببطلي «بيرسونا»(Persona)  الفيلم السويدي للمخرج إنغمار برغمان، حيث زيف الأقنعة التي نرتديها لكي نُسعد من حولنا، لكي نظهر بمظهر اجتماعي مميز حتى يرضى الجميع عن كينونتنا، اليوم ستقيم الكمامات حواجز بيننا وبين الآخرين، وسوف نضطر لتغيير الكثير من سلوكاتنا وقيمنا وفق ما يفرضه القناع الجديد لوجهنا.

سقط القناع عن القناع، سقط القناع

القناع هوية مضللة، كما في المسرح والحروب لدى الفرسان الملثمين أو اللصوص وزوار الليل من البوليس السري في الدول القمعية، الذي يختطف المعارضين قبل صعود الفجر، «بوخنشة» الذي كانت ترهبنا به أمهاتنا لننام ونكف عن شغب الطفولة، القناع دفن لهوية واستنبات لأخرى جديدة، غامضة، مثيرة، يخلق اليوم التشابه والتماثل بين جميع الممثلين في العالم، لكنه يثير القلق والفزع والارتياب، حتى ولو ارتبط بالقناع الصحي لدى الأطباء في قاعات الجراحة.. يزرع فينا خوفا ملتبسا، ينشر من حولنا الرعب ورائحة الموت، لأنه رديف المجهول والغامض فينا.

منذ انتشار فيروس كورونا المستجد في آسيا وانتقاله إلى باقي أرجاء المعمور، أصبحت الكمامة نوعا من السلاح الضروري لمواجهة انتقال العدوى، منصوص على إلزامية ارتدائها قانونيا ويتعرض المخالفون إلى العقاب، بالغرامة أو السجن.. كيف يصبح التجلي والوضوح والبروز بوجه مكشوف رمزا للتهديد وتعريض الذات والآخرين إلى خطر الإصابة بالفيروس التاجي؟

في الأعراس والحفلات، في المآدب والمآتم، في الصالونات وفي المنتزهات، في المطاعم والمقاهي، في المتاجر والأسواق، في المسابح والشواطئ، في مكاتب العمل وفي الشوارع العامة… هناك سطوة كبرى لأقنعة الوجه الصحية، حتى لنبدو كممثلين جدد على خشبة مسرح الحياة، كل له دور في هذه المسرحية التراجيكوميدية من تأليف فيروس مجهري وإخراج صنّاع السياسات العمومية.. في الصحف السيارة كما في التلفزيونات ومواقع التواصل لا صور مجردة من القناع الصحي، صور تحاكي الواقع وتقول زمنها، الكل يبرز في صور مكممة.. تلك عدالة فيروس إمبراطوري فرض شروطه على البشرية التي أصبحت تتخفى وراء الأقنعة، ففيروس غير مرئي لا يبرز إلا من خلال أثر عدواه يستلزم الأقنعة المكشوفة لحماية المرء من مرض لا نعلم إن كنا مصابين به أم لا إلا بعد حين..

لا شيء يعلو على رمزية الكمامة التي تختزل الرغبة في الحفاظ على الحياة ونزعها مغامرة ومخاطرة وجهل مبين.. نحن الذين كنا بالأمس «نخرج أعيننا» بوقاحة زائدة في العالم، لنؤكد تفوق الجنس البشري وإخضاعه للطبيعة التي كيّفها وفق حاجاته من أجل إسعاده، فإذا بفيروس هشّ، مجهوله أكثر من معلومه، يكشر عن أنيابه ليعيدنا إلى زمن الأقنعة الدينية والطقوس الأسطورية، ويدفعنا إلى الاختباء والتنكر وسط قطعة قماش.. فيروس غير مرئي يبرز عدم قدرتنا على حماية أنفسنا، حيث أصبح العالم مصدر تهديد مستمر لنا، لذلك اختبأنا طويلا في جحورنا أثناء الحجر الصحي لحوالي ثلاثة أشهر.. والآخر حتى من المقربين، متى اتصل بالعالم الخارجي أصبح بدوره مصدر تهديد لنا يثير الفزع والخوف ونشم فيه رائحة الموت.. مما يدفعنا لإقامة الحواجز بيننا وبينه عبر الكمامات!

قناع الوجه كهوية إبداعية وطقوس دينية..

من التضليل إلى الخوف

هناك العديد من الأقنعة الشائعة حول العالم التي يمكن تصنيفها حسب معايير مختلفة.. يمكن استخدام الأقنعة في الطقوس والاحتفالات والصيد والأعياد والحروب والعروض والمسارح والأزياء والرياضة والأفلام، وكذلك في الأغراض الطبية أو الوقائية أو المهنية.. يمكن أيضًا استخدام الأقنعة كنوع من الزخرفة… هناك العديد من الأقنعة حول العالم تختلف بحسب وظائفها..

يحيل النص الديني إلى أن نبي الله يوسف وضع قناعا فرعونيا مذهبا على وجهه حين تنكر كي لا يتعرف عليه إخوته إذ جاء في «سفر التكوين»: «ولما نظر يوسف إخوته عرفهم، فتنكر لهم وقال لهم: من أين جئتم؟».. وورد في القرآن الكريم: «وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون».. أي أنه نتيجة لقناع الوجه الذي كان يرتديه متنكرا لم يتمكنوا من التعرف عليه، الوظيفة الأولى لقناع الوجه هي التنكر، التخفي، الغموض والتمويه والالتباس..

ازدهرت الأقنعة مع الطقوس الدينية/الطوطمية ومع المحاربين الذين كانوا يرتدون جلود ورؤوس حيوانات شرسة لبث الرعب في صفوف أعدائهم، وأصبح لها صناع وحرفيون.. كان القناع رسالة محملة بالإيحاءات الدينية كرمز للأسلاف وتقديس لهم، في كتاب «الموتى» الفرعوني يوجد فصل خاص اسمه «القناع» (الفصل 151) يتحدث عن القناع الجنائزى الذي ترتبط وظيفته بفكرة الكا (القرين) والبا (الروح) أي قرين الروح وصنوها، لذلك ارتبط القناع بالبعث والخلود، وظل المصريون القدامى يعتقدون أن القناع يوفر الحماية لرأس الميت، وكان صناع الأقنعة يجتهدون في إبداع أيقونة القناع التي يجب أن تكون شبيهة بوجه المتوفي حتى يسهل على روحه التعرف عليه في العالم الآخر حيث الخلود الأبدي، لتتعرف الروح على جسد صاحبها من خلال تحري ملامحه المتفردة، ومن خلال المومياءات التي تم اكتشافها وجدنا الأقنعة التي كانت ترتديها الجثث المحنطة مناسبة للوضع الطبقي الذي كان عليه الميت في الحياة، ها هنا لا يحمل القناع وظيفة حماية رأس الميت فقط بل يحافظ على وضعه الطبقي أيضا، وفي حالات أخرى كان يتم صنع أقنعة مضللة عبر تحويل وجه الميت وشخصيته الحقيقية إلى شخصية مناسبة للقناع الحيواني الذي يتم صنعه وذلك بغية طرد الأرواح الشريرة، حيث يمنح القناع حياة أخرى أو شخصية ثانية لوجه الجثة، تسمح بإقامة حواجز مع العالم الخارجي، تخفي حقيقتها حتى لا تتمكن الأرواح الشريرة والكائنات الغريبة من التعرف عليه، القناع هنا حافظ للشخص الحقيقي حتى وهو ميت من أي عبث، مضلل ومراوغ يخفي حقيقة الميت وشخصية جثته الحقيقية..

( يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق