ثقافة وفن

زي الهوى

العندليب الأسمر

د. محمد بدوي مصطفى

تلك يا سادتي أغنية يحكيها حبّ، ويرنو إليها هيام ويناجيها غرام؛ نعم، هي قصة حقيقة دون أدنى شك لمست أوتار قِيثارة العندليب وذابت بصدر عوده الرنان وعاشها خيالا ولحنا يزرف الدمع الغزير دون انقطاع ودون أن يكتب لنهاية هذه الحكاية السعد وأن تبلغ مرادها ومرماها لتزغرد غبطة وترقص طربا على أفنان الياسمين وفي رياض الهائمين، عطشى لتحظى في نهاية المطاف بنهاية سعيدة، فالظهر يا سادتي، والطالع بل الحظ هو الأمير في كل شؤون الفؤاد، لا آمر عليه فهو الأمير. كانت تلك أمانيه التي ضاعت بين نبض الهوى ودوامة العشق وعجلة الهيام، تخفق الكلمات كما اللحن في مقاطعه الأربعة انطلاقا من بداية متفائلة، فرحة تشبه كل البدايات السعيدة في الحياة بيد أنها تنتهي بخاتمة تراجيديّة مؤلمة، خانقة وحزينة؛ كيف لا، وهناك انتظار دون لقاء، تلتها شموع انطفأت دون فرحة، وعقبتها أماني ضاعت دون استجابة فضلا عن دموع استرسلت دون انقطاع وبين هذا وذاك يناجي عندليب الغرام محبوبته في غمرة الألم: “في عز الأمان ضاع مني الأمان”. فعندما يضيع الأمن والأمان حينئذ لا يبقى للإنسان من قاعدة يستند إليها، فالهاوية هي المأوى وبئس المصير!

يحكي أنه في إحدى زيارته الفنيّة إلى بلاد الجمال والفن والطرب بيروت لبنان تعرف العندليب الأسمر على فتاة فاتنة، خارقة الجمال، دعجة العينين، ضامرة الخصرين، متهللة الحاجبين فأحبها دون مقدمات، قنبلة ذريّة من العيار الثقيل، وما كان منها إلا أن بادلته تلك الفضيلة، فأحبته هي أيضا إلى درجة الجنون، فقرر عبد الحليم أن يقترن بها وأن تكون شريكة حياته مستقبلا، لكن كان لا بد له من الرجوع إلى موطنه لترتيب بعض الأمور المتعلقة بالشأن. فعندما عاد بعد شهرين إلى بيروت تفاجأ بخطوبة المحبوبة على ابن عمّها. فكان لذلك عظيم الأثر في نفسه الفنانة البضة وحسه المرهف، فبادر وفور عودته إلى القاهرة شغوفا بلقاء الشاعر الغنائي العظيم محمد حمزة وأخبره بكل القصة متوددًا إليه أن يجعل منها قصيدة غنائية وذكرى خالدة لحب لم يتحقق وأمنية ضاعت طي النسيان. وعرف عن الشاعر الغنائي حمزة أنه يفصل الأغاني كما الأزياء بالمقاس، طولا وعرضا، لكل فنان يطلبه ذلك بالتمام والكمال. عندما ردّد العندليب مقطع: “رميت الورد طفيت الشمع” صاح بالشاعر قائلا مستنكراً: حتى الكوارث تستغلها يا حمزة؟!

قام بتلحين القصيدة العصماء المبدع بليغ حمدي، ويقال هي واحدة من ألحانه المفضلة حسب ما ذكر بعض المقربين إليه. تم عرض الأغنية للمرة الأولى في ٢٦ أبريل ١٩٧٠ في حفل عيد شم النسيم بسينما ريڤولي واستمرت مقدمتها الموسيقيّة ما يقارب العشر دقائق ونيف وقام بتنفيذ الموسيقى الفرقة الماسيّة التي رافقت عبد الحليم خلال مسيرته الفنيّة الخالدة. وقد احتوى اللحن على مذهب (مقدمة)، وأربعة مقاطع منها قصيرة هي: “وخدتني من إيدي”، “وخدتني ومشينا”، “خايف ومشيت ونا خايف”، أما المقطع الأخير فهو طويل نسبياً هو: “وخدتني يا حبيبي”. وقدم بليغ حمدي في هذا السياق إيقاعات موسيقية متنوعة ولحنا يحاكي القصة ونغمة حيوية ظلت خالدة إلى أكثر من نصف قرن. واختلط هاهنا سحر الآلات الغربية مع الإيقاعات الشرقية والمقامات العربية الرائعة على مقام البيات. فتألق عمر خورشيد على الجيتار وسمير سرور على الساكسفون واختتمها العندليب بنبرة هادئة ومحزنة: آه من الهوى يا حبيبي آه من الهوى. زي الهوى من الأغنيات الخالدة، فسوف تحيا ما حيينا وكما يحيا العندليب في قلوبا بذكرى عبقة كما أريج الياسمين وعطر العنبر في القلوب النديّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق