ثقافة وفن

أبنوسة ونخلة

ود حبوبة فائح السيرة  (١)

أسامة الطيب

تتفتح الورود على ضفتيه، وتتباشر بالرذاذ، والنيل سادر في سهومه العميق، يفجِّر المعاني، موجاته صامتة، تسأل نفسها بين حينٍ وآخر، عن سر انتظامها المميت بين أصابع التيار الذي يصبغ الليل بأصواته، وحين تستبد الأسئلة بالموج، يتقافز على ورود الضفاف وينزلق بعد ذلك متثاقلاً لانتظامه القاتل، ولم تكن سني بداية القرن العشرين ، ذات القلم الرصاص، قد استطاعت أن ترسم وجهاً جديداً على صفحة مرآة الإنجليز، كانت تجهد أن تنتظم في ولاءاتها الدينية، وتتوحد ضد استعمار (الكفر) ولم تكن بحاجة لديمقراطيةٍ (مستدامة)، وهي تمشط شعر ليلها الطويل بالونس والذكر وشاي اللبن، ولم تحسن مفردات الإصلاح والتجديد، وقوفاً بين سيقان الانتماء الخالص حينها، وما من حاجةٍ لمصالح فردية، في زمنٍ يقتل الفرد نفسه للدخول في الجماعة، ومضى التيار صابغاً الليل وأطراف النهار بصوته عبر مساراتٍ لم يسأل عبد القادر إمام ود حبوبه عنها، وهو يلبس جلبابه المرقع ، (الفاتح على شارعين) ، الجلباب الناصية ، ويحمل معوله في زمن السلم، يركز حربته على جناح أم جكّو – جلباب الأنصار – في اقرب غرف المنزل الواسع، يدندن براتب المهدي ليل نهار، ما كان ليسمع شيئاً من قصيدة الشيخ محمد شريف معلم محمد أحمد بن عبد الله ومنكر مهديته.

” فقال أنا المهدي فقلت له استقم 

فهذا مقامٌ في الطريق لمن يدري

وخادعني بالقول كالمهد ابنكم

ومحسوبكم في الحبِّ وفي عالم الذرِّ

فقم بي لنصر الدين نقتل من عصا

فأنت لك الكرسي ولي دول الغير

فقلت له دع ما نويت فإنه

وتالله شرٌّ قد يجرُّ إلى الخسر “

وتلك قصة أخرى ، ولكنه كان يمسح بطرف عمامته حبات عرقٍ صغيرة تناثرت على وجهه المشعّ بالولاء والشلوخ وتتصارع بداخله مواويل شتى من أغنياتٍ وتهاويم وصور، وحين يدخل على ذاته يسلم على إمامه ودعواه ، مضيئاً جنباته بتعاليمها وناشداً لعزومه القادمة عبر الفتوحات الكثيرة يردد مع (الدولابي)

” كيف التئام فؤاديَ المفطورِ

ورقؤ دمع محاجري المفجورِ

أم كيف الضنا عن مهجةٍ

أحشاؤها تصلى على تنّورِ

أسفٌ على المهديُّ من سهد الصبا

قد كان معصوماً عن المحظورِ”

وأفاض ود حبوبه في حب إمامه، وهو ابن زعيم قبيلة الحلاويين ، يقف شارداً ، لا تحتمله أفكاره ولا يحتملها ، يتطاير الرذاذ على قدمين أدماهما طول القيام، وافتقاد القائد، والنهر أمامه مفضوح بصمته، يحتمي بالطوابي التي لم تحم نفسها من مدافع الأتراك الغادرة، (لم يعترف ود حبوبه بالفتح مع رهط من أنصار المهدية، ولم يرد أن يغير نهج حياته المرتكزة على بيعته لإمامه )1) ظلَّ مخلصاً لراتبه ومعتقده ( ومضى يخالف بقية إخوانه، وبني عمه لأنهم رضوا بالواقع وأرادوا أن ينتبهوا لمزارعهم ومعيشتهم في أمانٍ تحت ظل الحكومة الجديدة)2).

لم تكن قناديل الذرة الشامية، التي أرسلت شعورها على ورود اللوبيا ناصعة الابتسام، قد أزالت من كدره وهو يُغصُّ بالمستعمر واستسلام الأهلين ضعاف الحيلة، تستفزه حربته المركوزة أمام سريره كل يوم، فلا يستطيع إغماد ذاكرته ولا إغماض عينيه، لا يستطيع مثله التعبير بالدمع، في زمن تهزُّ صرخة الرجال فيه العيون فتُذهب ماءها، يدخل على خلوته يعلم القرآن، ويجدد عهده لجلبابه المرقع بالجهاد، لا الجهاد المدنيّ ضائع المعنى والرائحة واللون، ولكنه جهاد الحضور الكثيف لراتب إمامه الذي يؤمن به. وظل النيل في سهومه، يلاطف الضفاف، وأفكار عبد القادر ود حبوبه، وهو يحاول جهد يقينه، أن يلوِّن حاضره بواقعٍ متوازن، تدميه انتكاسات دولته، فيما يسمى بالفتح في عالم كتّاب التاريخ ، ويعتصر قلبه انكسار الأهل وانحسار الحلم، الذي كان يطمح لعالمٍ لا تغيب شمس راتب الإمام عنه، وصار يرضى من الغنيمة بالانسحاب شيئاً فشيئاً من أوردة الحياة، والنخل يضع يده على عينيه ليرى من أبعد ما يتصور ، رجالاً يسيرون في زمنٍ صارت فيه زرقاء اليمامة قطعة أرضٍ مجدبة، نسيها النيل فتناست تواريخ بذورها التي قتلها صهد التربة وظلمة الغياب الطويل، وعبد القادر في وقفته فارعة  الحزن جريحة الأمل تلك ، يمرُّ من أمامه ضابط تسوية الأرض الإنجليزي، تمرُّ الخيول في شموخ تغازل الصمت بصهيلها المترف، ويمرُّ عبق عطور الشرق كلها، في أردان حرَّاسه منكسي الرؤوس والقلوب وعيون الأهل، يشير الضابط بعصاه، فتبهت أحجار المساحة، وتنزوي شوارب المسَّاحين، يغيِّر حدود الله والناس، وشتلة كانت تنعم بدفء صاحبها، تحولها إشارة واحدة من عصا الخواجة الناعمة لصاحبٍ آخر وأهلون أخر، والناس  يتطاولون على صمتهم بدندنة أغنيةٍ فارغة، حين تسلمهم الليالي إلى صفير الذاكرة و وخذ الأسئلة. نواصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق