
متى يعلنون وفاة السودان؟
طارق يسن الطاهر
تنهض الدول بصلاح طرفيها: الحكومة والشعب، ولكن إن فسد الاثنان ، فلا تنتظر غير الفشل ، وهذا الذي نلحظه في حال دولتنا السودانية.
منذ الاستقلال، ومرورا بجميع الحكومات ، ومع تبدل الأجيال ، يظل وطننا يراوح مكانه ، ويظل مصمما على البقاء في مربع الفشل، متمسكا به،لا يبارحه.
أما الحكومات، فلا أستثني أحدا ، على قول مظفر النواب ؛ إذ لم يقدّر الله لهذا البلد حكومة وطنية ،تجعل الوطن همها، وتضعه نصب عينيها ، وتجعل سعادة “محمد أحمد” هاجسها ،فقد تبارت جميع الحكومات بمختلف مكوناتها ،وتنوع خلفياتها ، سواء العسكرية أو الحزبية، أو العسكرية -الحزبية ، تبارت في إضعاف هذا الكيان السوداني ، دائرة شريرة ظل وطننا يتأرجح بين حلقاتها ؛ إذ تُوصلنا كل حلقة إلى مرحلة أخرى من الفشل.
لا يعجبني التغني بمواقف عبود أو نميري ، فكلاهما حلقات في دوامة الفشل الذريع ، كثير من الناس ينشر صورا ومقاطع للفريق عبود، وهو يزور المملكة المتحدة ،ويتحدثون عن العزة التي كنا فيها ،وكيف كانت عظمة لقائه بملكة بريطانيا ، ماذا ينفعني ذلك – كمواطن – مع رئيس فرّط في مدينة كاملة ،وشرد أهلها ، وغيّر ديموغرافيتها ،وهجّر مواطنيه إلى مكان آخر ، كل ذلك تم دون مكسب يعود عليهم ، ولا على الوطن؟ عطاء من لا يملك لمن لا يستحق!
كم من معجب بالرئيس جعفر نميري ،ويتغنون بنزاهته، وشجاعته ،وكيف كان وضع السودان عالميا عزة ومكانة ، وكيف كان هبوطه في أيلول الأسود وإنقاذه ياسر عرفات!!
ما ينفعني ذلك –كمواطن – والبطش كان مسيطرا ، والظلم كان فاشيا ، والوطن كان كسيحا ، شرد رموز البلاد ، وأعدم كثيرا منهم.
ربما لأن عبود ونميري كانا أفضل السيئين ، ولكنهما بالتأكيد ليسا متميزين ، ولم ينجحا في إدارة البلاد ، ولم يوفقا في حل مشكلاته ، بل ما زاداه إلا خبالا.
ومما انفرد به النظام السياسي السوداني في تجربة غير مسبوقة ، هي أن تمنح الحكومة الحزبية السلطة لحكومة عسكرية، في أسوأ سيناريو، كما فعلت حكومة حزب الأمة حينما سلّم عبدالله خليل السلطة للفريق إبراهيم عبود.
إن وجدت حكومة وصفت بالنزاهة وعدم الفساد تجدها فرطت في الوطن أو جزء منه كما فعلت حكومة عبود في منح وادي حلفا لدولة مصر ،لتقام عليها بحيرة السد العالي ، ومن أخطاء عبود كذلك أنه حل الأحزاب ،وضيّق عليها ،وصادر دُورها .
والحكومة التي تدعي أنها حافظت على الوطن وترابه ، تجدها غرقت في الضعف وأصابها الوهن ، وانعدام الهيبة.
والحكومة التي نجت من الفساد ، وحافظت على تراب الوطن تجدها بطشت بالمواطن وسلبته حريته .
وهناك من جمع السوأتين : الفساد والتفريط في أرض الوطن ،كحكومة الإنقاذ – سيئة الذكر -حينما أضاعت الجنوب وبعض جبال النوبة ، وغرقت في الفساد حتى أذنيها.
والآن نحن في ظل حكومة ثورة ،لكنها تتعامل كحكومة دولة ،يومها كألف سنة مما نعد ، حكومة بها قدر من الكفاءات العلمية ، نأت بنفسها عن الفساد ،وتوافر لها الدعم الداخلي والخارجي الذي لم يتحقق لأية حكومة في تاريخ السودان ، لكنهم لم يستغلوا شيئا من ذلك ، ولم يستثمروه من أجل توفير حياة كريمة للمواطن.
فشلت جميع الحكومات المتعاقبة في حل مشكلة الجنوب ، وفشلت في تذويب القبلية ، كما فشلت في منع تفشي العنصرية، بل بالعكس فقد أسهم بعضها في تكريس ذلك، فشلت جميعها في انتشال السودان من الفقر والجهل والعوز، فشلت جميعها في اقتناص موضع متقدم لهذا الوطن.
كثير من الوزراء – في جميع الحكومات السابقة – تتاح لهم الفرصة وهم في سدة الوزارة ، فلا يفعلون شيئا ،ولا يتركون أثرا ، وما أن يغادروا مناصبهم تجدهم زوارا دائمين على الفضائيات، ومنهم من يعكف على تأليف الكتب، وينظّرون في كيفية حل المشكلات السودانية ، وقد كانت الفرصة في يديه، ولم نر شيئا .
دولة حباها الله من الخيرات ما يجعلها في بحبوحة عيش، ورغد حياة ، لو صلحت النية وحسن العمل ، ولكن سوء الإدارة، وضعف الفكرة ،وعدم وضوح الأهداف ، وخور العزيمة ، مع الفساد المستحكم سابقا ، جعلنا في الحالة التي نحن فيها.
بلاد كلما نهضت، تعثرت ثم سقطت ، بلاد كلما ابتسمت حطّ على شفتيها الذباب ، ولكن لا نعيب على الآخرين، فالعيب فينا.
أما الطرف الآخر، وهو الشعب ، ، فقد أسقطت الأزمات ورقة التوت التي كان يواري بها هذا الشعب سوءاته ، فانكشف على حقيقة مرة، وواقع مزرٍ، وصورة كالحة ، ومنظر بشع.
كل فرد من أفراده يلوم الآخر، ويعيب على الآخر ، ولا يرى سوءاته ،ولا يلحظ عوراته ، وينتقد حكومته ، ولا يعينها ، ويثبط عزمها ،ولا يساعدها ، شعب استغل أفراده الأزمات ليغتنوا ، تاجروا في قوت بعضهم ، ولا يبالون ، أحدهم يموت جاره من أجل علبة دواء، أعيا ذويه البحثُ عنها ،ولم يجدوها ، لكنها موجودة في مخازنه .
تدور سيارات الإسعاف متنقلة من محطة لأخرى بحثا عن وقود ، لتحمل مريضا ، ولكن الوقود قد هرّبه حماته “لصوصه” إلى دول الجوار ، واكتنزوا الباقي في براميل في منازلهم.
يقف الشيوخ والنساء والأطفال في صفوف الخبز بالساعات، ولا تجد مراعاة لمحتاج أو ضعيف أو مريض . وتجد الدقيق في مخازن اللصوص.
يحظر السفر بين الولايات ، وتلوح هنا فرص للتكسب لضعاف النفوس حينما يفرضون على الراكب المضطر قيمة نقله عشرة أضعاف السعر الحقيقي.
مواطن نجح بدرجة الامتياز في الاحتكار ،وفي استغلال الأزمات ، والتربح الحرام ، وزيادة الثروة بحلب دم أخيه ، لكنه رسب في امتحان المروءة والأمانة والنزاهة والوطنية!!
شعب ينجح في إقامة الثورات وإزاحة الطغاة -فقد فعلها ثلاث مرات- لكنه لا يستطيع المحافظة على مكاسبه ، ويعود كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
ماتت كثير من الصفات التي كان يتغنى بها السوداني ، ويباهي بها الشعوب ، فأصبحت من كلاسيكيات التراث التي لا نقدر على استعادتها إلا بالحكي والقص.
شعب لا يقبل بشيء ،ولا يعجبه شيء ،ولا شخص، يعارض من أجل المعارضة ، ويرتكب ضررا أكبر لأنه رفض الضرر الأصغر ، لو كان ضررا فعلا ،ولكنه هكذا صوّر له عقله المريض .
يتقاتلون من أجل تقاسم كعكة نتنة ، سبقهم عليها الذباب ، فلم يبق فيها شيئا يفيد ، ولم يذر.
شعب لا يمتلك أدوات التعاطي مع الحرية ، ولا يفهم متطلباتها ، ولا أدواتها ، ولا يدرك كيفية التمتع بها حقا.
كنا نباهي بأننا علّمنا الشعوب ، ولكننا الآن أجهل الشعوب ؛ فالجهل سيوردنا المهالك ، وسيعجّل بنهايتنا التي نمضي إليها الآن بسرعة البرق.
يرمي الشعب اللوم على حكومته ، وتعيد الحكومة كرة اللوم إلى شعبها ، وبين هذا وذاك ضاعت الدولة ، وصار الوطن مسخا مشوها .
فليضطلع كلا طرفي الدولة -الحكومة والشعب – بالدور المنوط به ، حكومات سادت ثم بادت ،وأظهرت في الأرض الفساد، لكن انتهى عهدها ،فعلى الحكومة الحالية عدم الركون للتركة المثقلة من تلك الحكومات ، وأن تعمل على معالجة بعض الأزمات المتاح علاجها ، حتى تستلم منها الحكومة المنتخبة الدولة ،وقد تقدمت بها خطوة ، وكيلا تكون هي حلقة في سلسلة الحكومات السابقة الملعونة من اللاحقة.
فلتفرض الدولة هيبتها ، وليترك المحتكر احتكاره ،ولينظف كل فرد ما استطاع من مساحة أمامه ، وليعمل الجميع متكاتفين متعاونين، و لتذوب المصلحة الشخصية من أجل المصلحة العامة ، وليرتب كل واحد ما يمكنه ترتيبه من أشياء، وليحافظ الجميع على هذا الوطن ؛حتى ينهض من موته السريري سليما معافى ، ولو استمر الحال في هذا الفشل المزدوج، وتلك السلبية المتبادلة ،فلننتظر إعلان وفاة السودان، وحينها ،لن يجد من يكفنه أو يصلي عليه أو يكرمه بالدفن.