
أين هم فى الزحام الآن؟
سيد أحمد الحردلو
ـ1ـ
عدت من ناوا وتنقاسي أواخر ديسمبر 1971م، والتحقت بالمكتب الوزاري التنفيذي، والذي كان يديره السفير احمد صلاح بخاري، وكنا اثنين معه، فاروق عبدالرحمن السكرتير الاول وشخصي، وكنت السكرتير الثاني ـ وكان حسين سيد أحمد هو سكرتير هذا المكتب والذي ترفع إليه تقارير الادارات المختلفة برئاسة الوزارة، وتقارير السفارات السودانية بالخارج، وكنا نعدّ ملخصات لها بتحليل وتعليق ترفع للوزير ثم إلى رئيس الجمهورية، وكان يسمى (التقرير اليومي)، وكنا نأخذه بعد اطلاع الدكتور منصور خالد ـ وزير الخارجية ـ إلى بيت الرئيس نميري بين التاسعة والعاشرة مساء.
ثم انضم السفير محمد عزت بابكر الديب لهذا المكتب مديراً له ـ كان العمل يتصل النهار بالليل، كان مرهقاً ولكنه كان ممتعاً ومفيداً.
ـ2ـ
سافرت في اول يناير 1972م إلى بورتسودان لإحضار بعض اغراضي المشحونة بالبحر، وقبل ذلك مررت على إدارة الشؤون الادارية والمالية، وكان مديرها السفير جعفر ابوحاج. ودخلت على الباشكاتب للحصول على خطاب بالاعفاء الجمركي ـ وتناول الباشكاتب ورقاً وقلماً وبدأ يسأل (عربية) فقلت (لا) فقال (ثلاجة) فقلت (لا)، (تلفزيون) فقلت (لا) ـ (غسالة) (لا) وراح يعدد، وانا اقول (لا) ـ فألقى بالورق والقلم في عصبية، وهو يقول (انت عايز اعفاء لي شنو!؟) فقلت (كتب واسطوانات) فصرخ (قلت شنو!) فقلت (كتب وأسطوانات) فصاح بأعلى صوته يدعو العاملين معه بالإدارة للحضور لمكتبه وقال لهم (الأستاذ ده داير إعفاء لكتب وأسطوانات ـ يعني ده كل ما عاد به بعد ثلاث سنوات في لندن!) (وعوج خشمه) وهو يكرر (كتب وأسطوانات) ـ وسمع السفير ابوحاج ببعض هذا الذي يدور فجاء وسأل (حاصل ايه!) فرد الباشكاتب (الحردلو داير إعفاء لكتب واسطوانات!) فقال ابوحاج لي (ديل اعداء للثقافة والفن، أدوه الاعفاء وبلاش سفسطة)!
ـ 3ـ
أخذت قطار الدوران ذلك الذي كان يدور من الخرطوم إلى مدني فسنار فكسلا فبورتسودان. حين وصلنا كسلا كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء. قلت لنفسي (إنهم يغنون لكسلا ذات التاكا وسيدي الحسن والسواقي والقاش فلماذا لا اقضي فيها يوماً!) واخذت حقيبتي ونزلت، وقلت لسائق التاكسي (خذني إلى فندق ممتاز) فقال (هناك فندق جديد اسمه إفريقيا)، حين دخلته وجدت شخصاً واحداً فيه ، فطلبت عشاء، فقال (لايوجد عشاء، فالساعة الآن منتصف الليل) فتوكلت على الله، ونمت. إستيقظت في الخامسة ، وطلبت (شاياً) فقال لي نفس الشخص (توجد قهوة بجانب الفندق!) شربت شاياً وقهوة. ثم سألت احد الجالسين عن الطريق إلى جبل التاكا ، فصعدت فيه قليلاً ثم شربت من مياه توتيل ثم توجهت إلى ضريح (سيدي الحسن) فوجدت عدداً من الرجال والنساء وقد افترشوا الارض امام الضريح ، سألتهم عن موعد الزيارة، فأجابوا انها (بعد بكره) سألتهم عن المسؤول هنا، فأشاروا إلى باب مفتوح ورجل جالس على (عنقريب) ذهبت اليه، سلمت عليه وطلب مني الجلوس ـ فجلست ـ قلت له (إنني وصلت من الخرطوم ليلة البارحة واريد ان ازور واغادر اليوم!) فقال (الزيارة عندها ايام والليلة ما يوم زيارة) لاحظت ان شلوخه شايقية. سألته (من اين انت) فقال (من نوري) ثم سألني (وانت من وين!) فأجبت (من تنقاسي) ولدهشتي سألني (بتعرف سيد احمد شامي) قلت (انه عمي) واستطرد (والحردلو) قلت (إنه والدي يرحمه الله) فصب لي شاياً ووضع (صحناً مليئاً بالزلابية امامي) وراح يناولني واحدة بعد اخرى ، حتى اخذت كفايتي ، ثم رأيت يده اليمنى تنسرب تحت المخدة وتعود بعدد من المفاتيح ونهض وهو يقول (بسم الله) ونهضت ومشى امامي نحو الضريح ومشيت ، واذا بالنساء يزغردن، والرجال ينهضون، وفتح باب الضريح ودار بي داخل الضريح، ثم قال (خلف هذا الضريح توجد صخرة كبيرة، أرقد فوقها قليلاً ، فهي تداوي اوجاع الظهر) شكرته، وفعلت كما قال!
كان الوقت ما يزال باكراً فمضيت نحو السواقي والقاش، كان القاش خاوي الوفاض ، التقيت رجلاً امام احدى السواقي، قلت (جئت أرى السواقي) فقال (هذه ساقيتي، تفضل) واجلسني على كرسي ، وراح يقطف البرتقال ويضعه امامي حتى اخذت كفايتي . ثم سألته عن الطريق إلى محطة السكة الحديد، فوصفه لي، فشكرته ومضيت.
وجدت موظفاً يجلس خلف شباك في احد مكاتب المحطة، فسألته (متى يأتي قطار بورتسودان!) فرد باقتضاب (لقد جاء البارحة ليلاً) قلت (أعرف ـ لقد جئت به، انني اسال عن القطار التالي) فقال (هنالك قطاران في الاسبوع لبورتسودان والقطار التالي سيأتي بعد يومين!) فحجزت فيه ، وانطلقت ابحث عن اهلي واصدقائي في كسلا فمقامي سيطول!
ـ4ـ
ذهبت إلى ديوان المراجع العام حيث يعمل الشاعر الساخر محمد احمد كرفس وحين رآني ادخل.. عقدت الدهشة لسانه، (كيف دخلت كسلا بدون علمه!) ورفع سماعة التلفون واتصل بالنقيب شرطة سعيد محمد علي الشايقي والنور محجوب طه (وثلاثتهم من اهلنا بتنقاسي) وذهب كرفس معي إلى الفندق واخذ حقيبتي إلى دارته ، وبدأت اتعرف على كسلا من جديد. (كسلا النهار وكسلا الليل)، كانت لياليهم عامرة بهم وبمن معهم وبفنانهم البدري حسين.
وكنت كلما جلست اليهم اتذكر عصماء توفيق صالح جبريل:
(كسلا اشرقت بها شمس وجدي فهي بالحق جنة الاشراق)
واخذوني إلى رحلة خلف جبل التاكا وكان مجلسنا ليس بعيداً عن حدودنا مع إريتريا . وهناك في كسلا بدأت اكتب (مسدار عشان بلدي) والتي اشتهرت بـ (يابلدي يا حبوب) ـ ويوم سفري طلبت اليهم ان نزور القطب الاتحادي الأستاذ محمد جبارة العوض (بطل قطار ثورة اكتوبر ـ فقد صادر القطار وحشده بالمؤيدين للثورة من الكسلاويين والمشرقيين ودخل الخرطوم غازياً)!
سمعت بتلك القصة وانا مازلت منقطعاً للدراسة في مصر، وقلت لنفسي في كسلا (هذا رجل يستحق الزيارة والتحية).
وجدناه جالساً في حديقة منزله يشرب شاي العصر ، وما ان قدمني اليه كرفس ، حتى انتصب واقفاً وقبل السلام صاح (ياولد اضبح خروف) فقلت له (انا مسافر الليلة في المساء إلى بورتسودان) فرد معاتباً (كيف تزورني في آخر لحظة)! ثم غاب عنا قليلاً داخل البيت ثم عاد وجلسنا نتحدث عن اكتوبر وما بعدها، واطرى على مقالاتي الخمس في صحيفة (الميدان) وانه مايزال يحتفظ بها . وعند انتهاء مجلسنا نده على شاب جاء يحمل كيسا ضخماً فخماً كان عبارة عن زاد للسفر!
ـ5ـ
انهمكت في القطار لأكمل (المسدار) وانا احتفل (بزوادة) محمد جبارة العوض (عليه رضوان الله) وحوالي الرابعة صباحاً وضعت القلم والقرطاس، فالقصيدة كانت قد (تسبكت) واسلمت نفسي لنوم عميق!
خارطة المشرق السوداني رائعة ومدهشة ، الجبال السامقة ، وانسياب القطار في تلك المنافذ الضيقة بين جبل وجبل ، واشجار الاراك ، والهدندوة والبجة والبني عامر، يرفع الواحد فيهم رجله اليمني على اليسرى ، وسيفه أو عصاهـ بين يديه فوق كتبه ، وهو يتأمل القطار الصاعد الهابط بين الجبال والوديان.
تذكرت الشاعر الصديق أبوآمنة حامد في هيأ ، وفي جبيت تذكرت نميري وطائرة كسباوي، و(غلطة كانت مشيت جبيت) !
ودخلنا عروس البحر الأحمر بسلام آمنين.
ـ 6ـ
استقبلني في محطة بورتسودان اللواء محمد الحسن مالك ، واخذني إلى دارته ، وفي اليوم التالي تسلمت اغراضي المشحونة بالبحر . كانت بوتسودان أيامها نظيفة وجميلة ، وأهلها طيبون ودودون ، ولياليها كانت عامرة بهم ، مثل ليالي كسلا ، وكان ومايزال فيها الصديق وابن العم عمر شامي ، والذي كان ومايزال نجماً من نجومها (انا ما قلت ليكا)! وانضم اليه فيما بعد الصوفي الورع يوسف شامي والذي يعمل في البحرية . ويقال ان من يعيش في بورتسودان ردحاً من الزمن ـ يعشقها ـ ولايستطيع الفكاك من اسرها ، ومن عجب ان هذا حدث لكثيرين من الشمالين الاوساط والاقصى.
ـ 7 ـ
كان اللواء محمد الحسن مالك يذهب باكراً لعمله في سلاح البحرية وكنت اذوب الوقت تجوالاً في السوق او أجلس في حديقة البلدية او اتمشى على شاطئ البحر، وذات ظهيرة عاد اللواء مالك وهو يحمل برقية وصلت إلى رئاسة البحرية. تقول البرقية بالحرف (لإخطار الموظف سيد احمد الحردلو بقطع اجازته والعودة فوراً حسب توجيهات الوزير)! التوقيع (وزارة الداخلية) (لاحظ اللغة!) ولم ننته من قراءة البرقية ، حتى جاء ضابط بوليس يحمل ذات البرقية وكانت قد وصلت لرئاسة الشرطة . فتيقنت ان جهاز الامن قد قرر اعادة إعتقالي كما حدثني الأستاذ موسى المبارك ، وطلبت من سعادة اللواء ان نذهب للمحطة ونحجز بقطار اليوم التالي ، وبالفعل غادرت بورتسودان ـ هذه المرة ـ بقطار هيأ ـ عطبرة ـ الخرطوم.
وصلنا الخرطوم في اول المساء ، وتوجهت للخارجية رأساً وانا أشعث .. أغبر، ودخلت على حسين سيد احمد بهيئتي تلك ، فضحك وهو يسألني عن سبب حضوري بهذه الهيئة ، فأخرجت اليه البرقيتين ، فقال: (لقد طلبنا من قريبك ضابط الشرطة ان يساعدنا في عودتك سريعاً لأن الوزير يريدك ان تسافر معه ضمن وفد السودان لمحادثات اديس ابابا مع الانيانيا (ون) والتي ستبدأ خلال الايام القادمة)!
تنفست الصعداء ، وعدت لبيتي في المقرن ، وأخذت دشاً بارداً و…….. نمت !!!
الخرطوم في 26/يونيو/2006م