سلايدرسياسة

حقوق الحيوان في بلاد العجائب

د. حسن حميدة – ألمانيا

تداولت وسائل الإعلام السودانية في الأسابيع الماضية، موضوع إرجاع عشرة آلاف وخمسمائة من الخراف، التي تم تصديرها للمملكة العربية السعودية في إتفاق تجاري غير مدروس. أتى رفض إستلام الخراف المصدرة من السودان من قبل الجهة الطالبة لها، بحجة عدم إيفاءها للشروط المتفق عليها بين الطرفين. وبأنها فقدت نسبة 60% من مناعتها، أي أن مناعة الخراف كانت تبلغ نسبة 80% قبل تحميلها في البواخر. وعند وصولها للميناء المستقبل، كانت ذات مناعة لا تتعدى سوى نسبة 30%. أرجعت الجهات المسؤولة السبب لطول الحجر الصحي للخراف، والذي بلغ في مجمله مدة أسبوعين لكل خروف. كما بينت سببا آخر، وهو تسلط بعض أفراد النظام البائد على شرعية وحركة البواخر، لصالح تجار يتنافسوف في أمر تصدير الخراف للخارج. تأتي زيادة على ذلك النسبة التي يطلبها مالكي البواخر من تجار المواشي المصدرين من دون حق، والتي تبلغ حوالي أثنين سنت لكل خروف يحمل على الباخرة. ولننتهي في هذا الإطار من موضوع الأسود الجائعة، لنبدأ لتونا في موضوع الخراف العطشة. وبهذا نكون قد أصلحنا الطريق للبطش بنا مرة أخرى. البطش من قبل ناشطي حقوق الحيوان في كل الدول، والبطش من منظمات المجتمع الدولي، بما فيها منظمة التجارة العالمية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. كل هذه المؤسسات لا تعرف أو تتفهم أقل التجاوزات في حقوق الحيوان.

إذا نظرنا إلى العدد المهول للخراف المصدرة، والتي تم إرجاعها بعد حين للبلد المصدر لها “السودان”، بحجة عدم إيفاءها للشروط المتفق عليها بين المصدر والمستورد، نجد أن هناك  إستهوان بكثير من الجوانب والحقوق التي تمس الإنسان والحيوان معا. أولا ينصب كل هذا الأمر في عدم مراعاة حقوق الحيوان حسب تعريفه الدولي. هنا يختلف الأمر عن تصدير المنتجات الزراعية بعد حصدها،  كالحبوب الزيتية والبهارات مثلا، والتي ربما تكون ملوثة بالفطريات السامة. الخراف التي تصدر وتحمل على متن بواخر للسفر بها هي شيء آخر. كائنات حية تتحمل عناء ومشاق الترحيل والإنتظار والسفر، من ضيق في المكان وإرتفاع في درجات حرارة الطقس ونقصان في الماء والكلأ. يسافر بها في عباب البحر ذهابا وإيابا، ثم ترجع من دون مراعاة لحقوق الحيون المتفق عليها حسب المعاهدات بخصوص حقوق الحيوان. هنا أيضا خرق آخر لبنود الإتفاق في أمر الإستيراد والتصدير. فعلى الجانب القوي في السيولة “قوة مادية” الذي بيده حزمة من النقود، عدم إستنزاف الجانب الضعيف في السيولة “ضعف مادي”، الذي بيده البضاعة المسوقة. الشيء الذي يفتح أبواب الأستغلال لكثير من الجوانب فيما يخص أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وسبل الوصول إليها قبل حلول العام 2030. هنا إستنزاف قاهر للراعي، الذي يودع خرافه للتاجر المصدر، وإستهلاك للتاجر المصدر، الذي يودع مصيره للمتعامل معه في أمري التجارة والتسويق الغير عادلين.

نرجع للثروة الحيوانية: مصدرها، كيف تنتج، وكيفية تطويرها إلى أن تباع في الأسواق؟ هذا مشروع رعوي شاق ووعر الدروب، منذ أن يولد الحمل إلى أن يصبح نعجة أو خروف. يجب على الراعي أن يشق بماشيته التلال والوديان، يتنقل بها من تل إلى وادي، أن يحرص على إستكشاف مكاني الماء والعشب، أن يعمل على تأمين أعداد ماشيته من قساوة الطقس وحركة الذئاب وقناصي القطعان. يستمر الرعي لأكثر من عام في العمل الجاد والشاق تجاه كل حمل أو خروف، وتحت أقسى الأجواء من مطر، يتلوه برد وحر. يأتي الراعي إلى السوق ويظن أنه قد بلغ قمة الهرم بعد عناء رعي كل خروف، ثم يفاجأ بأن ماشيته التي كانت ذات مناعة تبلغ نسبة 80% عند مفارقتها للمرعى، غير مطابقة للمواصفات. مواصفات مفتعلة من تجارة ربوية، للبخس بأثمان ما يملك، أو لمأرب من المآرب الأخرى. هذا الإحباط الغير إنساني، يمثل مؤشرا خطيرا على الرعي، الراعي ومستقبله، وعلى الثروة الحيوانية ككل. علينا ألا نستغرب أبدا، إذا رأينا الراعي ذات يوم يهجر الفيافي والوهاد، ويأتي لمدينة من المدن، ليمتهن أعمال هامشية لا تنتمي لحرفته ولحرفة آباءها وأجداده القدامي بصلة. وبه نكون قد فقدنا أحد ركائز المجتمع الأساسية ودعامات الإقتصاد المهمة في موضوع تغذية الإنسان. وبه نكون قد مهدنا لأنفسنا بأنفسنا لصناعة الجوع  في بلادنا من عدم، في مجتمع لا يمكنه توفير الغذاء لنفسه.

لنصل للحقيقة المرة، وأم الحقائق في هذا الموضوع: في بلاد العجائب نتفوق على بقية البلاد في كل شيء، بما فيه أن نحرص إطعام البعيد، ونظل جوعى في عقر دارنا – جوعى في كل يوم وفي كل ليلة. ولنسأل أنفسنا بصدق: لما نصدر منتجات غذائية نحتاج لها أنفسنا، قبل أن يحتاج إليها غيرنا؟ ألا يكفي تفشي الجوع في بلادنا في كل مكان؟ الا يكفي بأن تكون معظم الأمراض المتفشية في بلادنا، ذات إرتباط وثيق بأمر التغذية؟ أين مشاريع الأمن الغذائي في بلادنا التي تحمل لقب “سلة غذاء العالم”؟ – بلاد تخرج في كل عام عدد لا يستهان به من الزراعيين والبيطريين – أين موقع بلادنا من تغذية إنسانها قبل كل شيء؟

حقيقة نحن لم نعي الدرس بعد: هذه الخراف التي نصدرها، ثم ترجع لنا بعد أن تفقد نسبة 60% من قيمتها المناعية، هي ثروتنا ونحن أحق بها قبل إنسان غيرنا. ألا يكفينا رؤية الأجيال المنحولة الأبدان بسبب الجوع من بنات وأولاد يعبرون الطرقات في كل يوم؟ يخرجون للثورات والممسيرات لنيل حقوقهم، يكابدون المشاق، ويمشون دروب الصعاب من أجل حقوقهم المهضومة. وفي مقدمة حقوقهم، حقهم في الغذاء الصحي، الذي يتبوأ مقدمة قائمة المطالب الإنسانية الضرورية، والذي يضمن لهم قبل كل شيء، ألا يكونوا عرضة للأمراض، أن يكونوا قوة عاملة ومنتجة، وأن يظلوا كائنين على قيد الحياة. هذا الحق الغائب الذي تكشف عنه أجسام مفتوحة للطلق الناري وباروده المشتعل، من دون خوف ومن دون وجل. أجسام نراها تتحرك جادة في كل مليونية ينادى لها من أجل المساواة الإجتماعية. أجسام تحمل قليل لحم وعظم، ويغطيها بعض جلد. هذه هي الفئة التي هي الأولى بخرافنا “ثروة بلادنا الحيوانية”. وهذا إذا ما كان بإمكان البعض الآخر في في البلاد البعيدة، إسترجاع ما صدر لهم بكرم سوداني أصيل “ناكر لذاته”، لإستيراد ما يحتاجون إليه من ماشية من دول أخرى أبعد، كالبرازيل والأرجنتين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق