سياسة

ومضات إشعاع في القيم الثوريّة …!

عثمان جلال

عندما توهم ابوجهل أن النبؤة المحمدية محض تمكين لمكانة بني عبد مناف الروحية والسياسية والاقتصادية في مكة، وقال (زاحمنا بني عبد مناف في الشرف اطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، واعطوا فأعطينا حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به حتى يوحى إلينا كما يوحى اليه) ، عندها كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) اي توظيف هذه الطاقات الثورية الهائلة في حركة الدين الجديد، وبنو عبد مناف ليسوا سواء وكتلة واحدة فالزعامة السياسية والاقتصادية كانت عند بني عبد شمس، والزعامة الروحية والثقافية كانت عند بني هاشم، وهاشم الذي هشم الثريد واطعم الحجيج حتى قال اليهودي القادم من الشام (هذا هو الكرم وليس مثل كرم أهل الشام أهل الجفنة)

وكان اذا اشتد الاذى من بني عبد مناف يزيحه النبي (ص)، في تلطف وتجمل ويردد (اي جوار هذا يابني عبد مناف )، فهدف الثورة النبوية تحرير العقول من البنية الثقافية الموروثة التي كرست لاحتكار الزعامة السياسية والاقتصادية والروحية في بيوتات فوقية وعلاقات اقطاعية مع الآخر، وعلاقة ارفع من الاقطاع تسمى تلطفا بالجوار، ولذلك عندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف وطلب الدخول في جوار سهيل بن عمرو رد سهيل (أن بني عامر لا تجير على بني كعب)، عندها وظف النبي (ص) ذات الموروث القديم في تراتبية العلاقات ودخل في جوار المطعم ابن عدي ابن نوفل المتحدر من ذات شجرة بني عبد مناف الأكثر عمقا في مكة، ولذلك كانت المقاصد الثورية للنبي إنهاء علاقات الاقطاع والاحتكار المتوارثة في نادي النخبة المكي وحفز كل المجتمع سواء بسواء في حركة الدين الجديد، وعندما تحقق شعار قوامة المجتمع في الحكم والاقتصاد والثقافة، تصدى سهيل ابن عمرو لتثبيت الطليعة المكية عند الزلزلة التي أصابت المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي الكريم. وعندما تمكنت قوامة المجتمع في الحكم والسياسة والاقتصاد والثقافة، وتلازمت عملية بناء الدولة والأمة وتماهت قوة الخلافة مع قوة المجتمع، تمكن المسلمون من إسقاط أعتى الإمبراطوريات الفارسية والرومانية، وقد عد علماء الاجتماع السياسي هذه المرحلة بمرحلة الزهو الحضاري للمسلمين، والتي يحرص الغرب والحركة الصهيونية العالمية لعدم إعادة إنتاجها من جديد في المنطقة العربية بدعمه للأنظمة الاستبدادية والملكيات الاقطاعية. 

عودا على بدء فقد تجسدت قيم الاشعاع الثوري النبوي بعد فتح مكة، فكان الشعار الثوري للفتح (اذهبوا فأنتم الطلقاء )، شعارا عميقا يستبطن قيمة الحرية،وحوار الذات ، وعندما أدركت العصبة القرشية أن القضية  نبؤة وليست ملكا، امتدت أفواج الهجرة لقيم الثورة الإسلامية،ولأن الثورة تغيير في المفاهيم والأفكار والسلوك، لم ينزع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تغيير معادلة السلطات القديمة في مكة والمدينة بعملية (ابدال وإحلال واستبدال تمكين بتمكين جديد) فكانت راية المسلمين عند مصعب ابن عمير العبدري. وبنو عبد الدار هم حملة الراية في مكة منذ توزيع السلطات بعد وفاة الأب المؤسس قصي ابن كلاب، وظلت زعامة الاوس والخزرج في المدينة عند السعدين وعندما نزع النبي (ص) الراية يوم فتح مكة من سعد ابن عبادة سلمها لابنه قيس، وعندما أراد علي ابن أبي طالب استلام مفاتيح الكعبة نادى عثمان ابن أبي طلحة  وأعطاه له خالدا مخلدا لا ينزعه الا ظالم، وقد اعتلى بلال الحبشي أعلى الكعبة مناديا بإنهاء العلاقات الاقطاعية القديمة، بهذا الوهج الثوري العميق خرج النبي (ص) من مكة إلى الطائف وترك في مكة احد ابناء البيت الاموي (أميرا) عليها وهو ابن العشرين عاما، كما أسند من بعد لواء جيش مؤتة لأسامة ابن زيد، وهذه إشارات تنم عن اثر الثورة النبوية في تغيير المفاهيم والأفكار البالية.

تجسد إشعاع القيم الثورية عند توزيع غنائم هوازن فخص ذات البيوتات المكية وزعامات القبائل العربية  والتي كانت تتوهم أن النبؤة تكريس للهيمنة الهاشمية حيث بذل لهم الغنائم دفاعا ودفاقا، وكان عكرمة ابن أبي جهل لا يزال في حزب الطلقاء واستأجر المسلمون سلاحه، فشاهد قطيعا من الغنائم سال لعابه لها فقال له النبي(ص): أعجبك ياعكرمة؟ كله لك، وعندها أدرك عكرمة حقيقة الثورة النبوية وارتسم الإيمان في محياه، ومن التناطح والتزاحم باسم الشرف الزائف لحكم مكة، غدت مكة كتلة واحدة منافحة عن شرف وقيم الثورة الجديدة والذي مات دونه سيدنا عكرمة في تخوم الإمبراطورية الرومانية.

من الثورة الانجليزية(الماغنا كارتا) والفرنسية إلى ثورة (الشفاتة السودانية) اي ثورة بلغت في ذراها وتحقق غاياتها مثل الثورة المحمدية ، وللقطيعة التاريخية سيستدرك البعض بأن تجربة النبي صلى الله عليه وسلم حالة (وحيوية) خاصة محاولة استلهامها سيؤدي إلى تدنيس التجربة وتقديس السياسة وهذه محض فهلوة، فأي ثورة عميقة لا تنتج فكر جديد، وقيادة جديد، ووعي وسلوك سياسي جديد، وعلاقات سياسية جديدة تتماهى مع شعاراتها وقيمها تبقى محض رمرمة ثورية فجة تنزع إلى اختزال الثورة في شعارات زائفة ومغانم ومحاصصات وكيكة وكباية شاي، ولكن في التاريخ فكرة ومنهاج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق