ثقافة وفن

شعرية العتبات في ديوان “سلطان لحروف”

عبد العزيز كوكاس

“إننا بحاجة إلى الخيال كي نواجه تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء” بورخيس

يبدو الغلاف باعتباره عتبة للبيت الذي يشيده لنا “البنّاء” عبد الرحيم لقلع والذي يحمل عنوان “سلطان الحرف” في درب “الزجل”، مثل شمس تنتصب على صدر الصفحة الأولى، تليق بعرش جلوس “السلطان” المفرد بصيغة الجمع، كشمس “كتكوي، كتكدي، ولي كواه الحرف، ما يجيه ركاد ففراش، حيت الحرف منغاز، حيت الحرف هواس ف الراس دكان المهراز”.. ليس هناك غير الضوء وظله، في الانصهار الكيميائي الذي تعكسه لوحة المبدع التشكيلي شفيق الزوكاري.. البوتقة، الانصهار، الذوبان، حيث الحرف صهد، انحياز حارق، انتماء، لا فراغ في الغلاف، كامتداد أيقوني حيث تمتد لوحة الغلاف بكامل بهائها، العنوان المتسلطن، الكاتب المكتوي بلهب الحرف وخادمه المطيع، هوية النص المعلن عن انتمائه منذ البدء، قطرة الحليب الأولى من ثدي الأم، مجهول الهوية في حضرة السلطان العالم بتفاصيل مملكته وجغرافيتها السرية، بناسها وكائناتها.. لا غُفل هنا، فالشمس/ الضوء تعني من أحد وجوهما الكشف/ الحقيقة/ الضياء/ الوضوح.. يقول عبد الرحيم لقلع في طي الغلاف:

“كلشي يبهات ويكشف

كلشي يبهات ويخرّف

وتبقى لحروف ضاوية

تاج فوق راسك

هي العولة ف ضيق الحال

هي الزاد

هي لكلام لمطرّز

بذهب المداد”.

ترقد اللوحة والعنوان على فسيفساء الدار العتيقة، سحر البناء في المنزل المغربي، ما يعطي للقصر، هذا المعمار النصي الممتد بين دفتي الغلاف، بهاءه وأصالته، توليفا في الخلق له جاذبية الألق، يشمله أيضا صهد هذه الشمس المشعة من لوحة الغلاف، حين تفيض البوتقة على ما حولها.

وفي الأعلى مثل ثريا يمتد العنوان: نحن في مقام الجلالة، إلاهي.. يا لهيبة المقام، نحن بحضرة السلطان، والسلطان خليفة الله في أرضه، يلهج بأمره، يطبق عدله ويبين للناس سبل المحجة البيضاء لا يزوغ عنها إلا هالك، يشغل الخدم في حضرته والأسياد على السواء:

“آروا التاج لمرصع

بثلث نجمات ضاوية

حطوه على راس السلطان

ومن هنا يبدا لحكام”.

يتكون العنوان.. هذا البهي/ المشع، المليء بالسمو، من “سلطان”.. كلمة مفرد بهذا الخط الملكي المغربي الذي لا يكتب به سوى الملوك “الشرفا”، كما يقول المغاربة، له هبة الجلالة المرافقة لكل “سلطان”، والذي يحمل معاني إمبراطورية: القوّة والنفوذ، السيطرة، القهر والغلبة، الحجّة، البرهان والدليل، الهيبة والسيادة، العلم والدراية.. مضاف إلى “لحروف” الجمع المعرف كفاية، والذي يجعل “سلطان” معرفا بالإضافة، ذا هوية وليس نكرة، إنه “سلطان لحروف”، وتضم هذه الأضمومة الشعرية، العديد من الإحالات التي تصب في الحوض الدلالي للسلطان: “مولاك، أمرك، سلطانة الما وسلطانة السما، الله، المولى، نملك، مولاه، لملوك، حكام، سلطانك المنفي، ختام، خيول، اللجام، حاكم جاير، قبيلة سايبة، حاكم لقصيبة، مكحلة، زناد، خيول مركوبة، عزها وبهاها، سلطان السروت، الخيل والخيالة، أسيادي، سلاطن، مالين، السمع والطاعة…”

يحتفي شاعرنا ب”الحروف السلطان” لا الحروف العبيد مشرطة لحناك، الموضوعة رهن الإشارة وتحت الطلب، بل هو خادم هذا السلطان، ومن تواضع للحرف رفعه، لذلك يعتلي اسمه صدر الغلاف، في أعلى لا أسفل الصفحة.. والاشتغال بحضرة “لحروف” ليس مهنة، والكاتب المبدع ليس موضوعا رهن الإشارة، منذ البداية يعلن عبد الرحيم لقلع عن انتمائه للحرف/ السيد:

“الحرف الوكاد

المسكون بيه

ما يتهنى ما يرتاح

لا فعشوية، لا ف صباح

حتى يعانك الليل بياض الفجر”.

والكتابة ليست تسويدا للبياض، إنها حرقة ومسؤولية، اصطفاف، صدق، لوعة وعشق، وليست ترفا، لا شيء يعلو على “سلطان لحروف”:

“سلالة هي ما تقبل

حكام

ما يطوعها غير شيوخ لكلام

صحاب الطابع كَبريتي لواح وختام”.

وصاحب “الراس بحر” أحد شيوخ الكلام، يعي أن الكتابة “حال”، “وجع”، “سحاب” و”محنة”… لذلك يستدعي الجدة ووصاياها، إيقاظ السلف الصالح من قيلولة الغياب ليكون شاهدا على هذا الزمان وأهله، حيث غابت الخيول ومات الخيّالة، ولم يعد الناس على ما كانوا عليه من صدق ومحبة وعشق.. وعبد الرحيم لقلع يلعب دور الشاهد والشهيد، واستدعاء الماضي هو المعادل الموضوعي بتعبير ت.س. إليوت للقيم العليا كالشرف والصدق والالتزام والحب، يقول:

“وأنا ف راسي

يا ناسي

ما لكيت رحمة

ملكايا مع البحر والريح

ولا ملكايا

مع صحبة ناس

سمنها بالخف يريح”

يحيل فهرس الديوان الشعري لعبد الرحيم لقلع على دورة شبيهة بدورة الحياة من الولادة إلى الموت، من وجع المخاض إلى رأس العزاء، من الحَمام إلى اليمام، حيث تبدأ الأضمومة الشعرية بقصيدة “جوج حمامات” وتنتهي ب “سلطان الما”.. تفتح بحوارية الشاعر مع قلبه مصدر القلق والحال، في لحظة المصالحة مع الذات والزمن والتاريخ عبر رمز الحمامات، “الطوبيات، التوميات، الحوريات”، في زمن تبدو فيه الأشياء واضحة، والعالم متآخ متراص مليء ب”الجودة والسخاوة” وب”الحكمة والرزانة”.

وأمام عمق التبدلات المصاحبة للعصر، يبدو الشاعر لقلع منجذبا لذلك الزمن الجميل، مفتونا بهذه النوستالجيا إلى الحميمي الحالم حيث صفاء القلب، مهجة الروح، بهاء الصدق، تقاسم الفضاء المشترك مع الآخر، “مراضيين مقاسمين بلا خصام بلا مخالفة”، “النص بالنص”.

حيث الكلمة صدق وعشق، والالتزام بأوجاع الناس وقلقهم يملك أولوية لدى الشاعر عبد الرحيم لقلع، لكن ذلك ـ بأية حال ـ ليس على حساب شعرية النص، أو التفريط في الإعلاء من الكينونة الجمالية ل”سلطان الحروف”، حيث الأسماء والأمكنة والذوات لا تحضر بوقائعيتها بل فقط كظل شفيف، والكلمات أسبق من الأشياء، من هنا هذا التكثيف الشعري الذي يميز ديوان “سلطان لحروف”، حيث اقتصاد العبارة والاكتفاء بالإشارة، خاصة حين يدخل الشاعر حالة الجذبة كما في قصيدتي “مقام الكتبة” و”سلطان الما”.

في قصيدة “سلطان لحروف” تصبح لغة الكتابة موضوعا للتأمل والمساءلة، فيما يشبه الخطاب الميتا لغوي الذي يحتفي بجاذبية لغة الحال.. مسكونا بروح “شهوة الأصالة”، بالمعنى الذي يعطيه لها الشاعر بول فاليري: “تلك الشهوة” هي أم الاقتباسات كلها، وأم للمحاكاة، لا شيء أكثر أصالة، لا شيء هو ذاتك أكثر من أن تتغذى ذاتك من الآخرين لكن يجب هضمهم..” (دفاتر)، التي تجعله يستكنه أعماق دواخله، منجم أسرار لا ينضب، كما في قصيدة “جوج حمامات”:

“يا كلبي

أنا مولاك

وحرت فأمرك

ياك أنا مولاك

وما قدرت نفهمك

ولا قدرت نفك

لسرار المدفونة فيك”.

يستمع عميقا للكلام الذي يقوله ”الدعدوع على محاين دم ودموع” و”النخلة المجردة فلعلالي تتمايل”، أو حين يستفرد بذاته قبل أن تباغته تبدلات الزمن وسلوكات أهله:

“فيوم وأنا ماشي

جنب لبحر بالليل

فريد داوي مع راسي

بغيت نساوي معاه ميزاني”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق