ثقافة وفن

أبنوسة ونخلة

عطبرة – حديد النضال ونار الهوى 1

أسامة الطيب

كانت “عطبرة” قبيل الساعة الثانية ظهراً، تقف على كلّ نبضةٍ وكل طرفة عينٍ بصيرة، وعلى كلّ قافيةٍ جاد بها الشعر او لم يزل يشغلها في نول خياله المديد، وعلى كل حالٍ أيقظت الليالي شجونه أو أنامت همومه بتعسيلتها الناعمة، تقف وكأن الزمان يحشد دلالاته جميعاً ليفصح عن اللحظة القادمة، لحظة انطلاق “صفّارة” السكّة حديد من خلف البوابات المتحفزة، ترمق جموع العاملين على “عجلاتهم” للخروج الكبير، يحتشد الآلاف على مقودهم، يدهم على “القدون” ، و رجلهم على “البدّال” ، وقلوبهم على البلاد الواسعة، التي كلما ضاقت بها الأرض، اتسعت السموات بنجومها اللامعة ، فانبهلت الأمسيات عليهم سعة في الحبِّ والرزق والحياة، اتسعت عليهم العبارات من كل معنى، فعرفوا، ولزموا ، وكأنهم يقرأون من كتاب الخلود الحفيِّ، وكأنهم يكتبون في كتاب الخلود أغنياتهم الأبدية، تخرج من مدينتهم، وتطوف البلاد الواسعة، توسع من لحنها وقيمتها ومعانيها كل صباح، وتقاسمها الوسادة ليلاً (أنا سوداني أنا، أنا سوداني أنا) وكأن الله شاء لهذه المحبة أن تنطلق من مدينتهم وهم يهمّون بالخروج من بواباتهم عند انطلاق الصافرة، البوابات تنتظر الصافرة، و العجلات تنتظر البوابات، والشوارع تحسّ بنمل الونس يسري في “ظلطها” الفقير، يستغني بأزيز الجنازير وونس العمّال ومحبات الكون تتقاطر من عرقهم الغزير، بين شقوقه الفادحة ، فاتحة عروق النفس لباطن الأرض الطيبة، وكأن الله ساقط فكرة الخلود من علٍ على البِدل الرمادية رقيقة الحال، عظيمة الأحوال، فتمضي في الدروب كلها، تزرع النضال مع كل ضغطة جرس.ٍ، وتحصد الكرامة مع كلّ لفةّ مقود، يمشون على الأرض هوناً، و يطيرون في السماء كبرياء نافذة العطر، ويسبحون في بحار الله تقطر المياه والعزّة من ملابسهم كثيفة السترة، عميقة القدرة، العارفة بالكون وأسرار الخلق (كل اجزائه لنا وطنٌ اذ نباهي به ونفتتن، نتغنى بحسنه ابدا دونه لا يروقنا حسن، نتملى جماله لنرى هل لترفيه عيشه ثمن، غير هذي الدماء نبذلها كالفدائي حين يمتحن، بسخاءٍ بجرأةٍ بقوى لا يني جهدها ولا تهن، تستهين الخطوب عن جلد تلك تنهال وهي تتزن، انا سوداني انا) وحين تنطلق الصافرة ، وتُفتح البوابات، وتخرج إلى فضاء الله الوثير، وشوارع المدينة الرحبة، آلاف “العجلات” والنفوس النظيفة، تقرأ في كتاب اللحظة أن (العجلةَ من الإنسان) وأن العجلات لحظتها تئن من ثِقل ما تحمل من كونٍ باهرٍ على سروجها، يحدثون العالم بلغة الزهد، غنىً لم تعرفه الكتب، ورحابةً لم تحفل بها المعاني ، وطيب منبت ومبنىً وخاطر، العجلة في “عطبرة” من الإنسان، والإنسان في عطبرة من عجينة حديد المواقف، ونار الهوى، وتطويعة التصوّف الخلّاق ، الذي يربط الذات بالمعاني، فتتقازم المباني ويضيع التباهي وتنحسر الأنا القاتلة ، بين يدي نحن المفتوحة على مشارعها ، و يغسلها بالزهد، فيفرّ الدينار خائباً والمدينة تغرق في بحر المودة الكفيلة، والمباهج المبذولة بقيمة التراحم الوسيم، والمحبة البرّاحة ، لا مقطوعة ، ولا ممنوعة، ولا حدّ لأغصانها في السماء، ولا جذورها في الأرض، ولا لمعانيها في الكتب (ما جفّ ساق ابريل .. اكتوبر الأخضر… يات شيمة ليهو تشيل .. كل ما الرياح تكتر… فرعو الهطيط بيميل .. بس ما بيتكّسر… يتسامى دغري عديل .. كلما الرياح تنتر… طير الخطى الجايين .. ما بتفزعو الهزات… من دم رعاف الطين .. ودنس الحياة ام لذات … فاكرنا مين بالذات… دا القرشي .. قاسم أمين .. ويا دا الشفيع ما فات… وما اعظم الجايين .. يا اتبره وجايات).

المشهد كما هو، يقف “حسن خليفة العطبراوي” على مدخل الدروب كلها، يمسك نظارته بيده حتى يستبين الجموع، تتراص “الفلنكات” على حدود أشواقه، و القضبان تسير ما شاء الله لها في أوردة البلاد تغذيها بالقطارات والدم الحلال، الحرام، الدم الحار الذي ما برد يوماً ولا برّد المواقف، ولا هادن يوماّ، ولا هادم التاريخ بسيرةٍ منقوصة العزيمة، يقف مقرباً ما بين حاجبيه، وما بين أضلاعه، يغنّي للناس ويغنّونه ، وكأن “نهر عطبرة” من يلحّن قصائده ، فتحسّ بالرواء في عصاري رمضان الصيفية الحارقة، وكأنك تشرب بيديك مياه الحياة، لا فقط تمضمض ذاكرتك بالنضال المغنّى (جيت من قريب وبعيد .. من ادنى قول في البيد، وآخر فرع غابات، هبة رجال و ولاد، نسوان عزاز وبنات، أجداد وحبوبات، جيتك بكل جنس .. أحيانا والأموات، جيتك بكل لغة .. رطان وصاحب ضاد، جيتك هجِمْة السيل .. مطراً بلا ميعاد، لكني ما جيت ليل .. جيت في الضحى الوقّاد، وما فوقي إلا نشيد .. وما تحتي إلا ثبات .. ما في إيدي إلا الأيد شعباً جنا حوبات) يتمتم باللحن ، ويرسل الدمع لمآقٍ أخرى، فالحالة لا تعترف بدمع، وإن بدا لوهلةٍ أن دمع الرجال جيّاب، يعرف كيف يستلّ من لحظات ضعفه، عنفوان النصر والفلاح، ويفهم أن لغة الدمع حيناً تعادل ألف صرخةٍ يائسة، يتمتم باللحن وهو يفهم لغة العجلات على الظلط الفقير، فهو الحافظ لحروفها كلها، والفاهم لِغَميس معانيها،والمكتوب معها في نفس الصفحات، فيتملّى في كلماتها، ويعيد تأويل تفسيراتها، فتنشقّ عن لوزتها قُطنةُ وَجْده الكبير(صابر معاك صبراً طويل كاتم العلى، واصلوا العلى ما مرّ يوم بخيال بشر، لو قلتى قيس والله قيس بالنسبة لى، ما شاف عذاب لا ضاق ألم. لا قاسى مر، من كم سنة يا ستنا من كم سنة، عايش براى زى الغريب وايامى ماليها الضنا، من كم سنة قلبى الحزين، زى اليتيم، لا شاف حنان لا ضاق هنا، من كم سنة ما قلتي لي اخبارك ايه مالك مشيت من حيّنا؟ ) فتبادله الشوارع غناءً بغناء ، ومحبة بمحبة ، لا تقول له في الأسى ضاعت سنيني، ولكنه تبصرّه بماضيها التليد في العزيمة، تبشّر معه، وتمضي إلى حيث ورش القطارات، تنفث دخانها في ضيقٍ بائن، حتى تستعد لمعركة نضال قادمة، تتحالف مع القضبان، وتصرُّ صريرها الحديد، لتصل إلى مراقي نوالها المنتظر، وحين تعود لورشتها ثانيةً، تزفر آهاتها في صبرٍ جميل، وتشد ساعدها لرحلة أخرى، لا تنسى، ولا تسلو، ولا تتخلى عن قصةٍ افترعت دروبها، ولا تقتل نفسها بحثاً عن قيمة مهدرة، تجدّ جدّها تحفظ العهد، وتمتشق لياليها تحنّ لنظرةٍ آسرةٍ نقزّت القلب بسحرها، تضع عزائمها، وتلبس انكساراتها الوديعة وتغنّي، وهو تمدّ يدها وقلبها وسلال أشواقها إلى “العطبراوي” في دروبه الممدودة، و مشاويره الحالمة (نسانا حبيبنا المامنظور بنسانا ، مالو سافر روح ما غشانا، حليل الخوة الماقدر عشانا، نسانا حبيبنا عارف ريدنا هولو، عشان بتمشى قلوبنا ورا رحيله نسافر ليهو لي دارو ومقيله، نقول فارقنا سافر يا حليله، نساهر ونشقى لو ينفع شقانا، تسيل دمعاتنا بي شوقا وحنانا، عشان ما يطرى ريدتنا ومنانا ، يذكر قلبه ايامه المعانا، كيفن صابر مستحمل قليبو، الزمن نساهو ونسى اخلاص حبيبو، يامعذبنا وماقادرين نسيبو  نقول لابد بكرة الشوق يجيبه، وحاة الريدة ما بننسالو عشرة، اه يادنيا لوفي بالو مرة، اتذكرنا او بس طيفنا مرّ، كان يحليله عرف الفرقة مرة) نواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق