خارج الحدود

القومية العربية حب قبل كل شيء

ميشيل عفلق (١٩٤٠)

أخشى أن تسف القومية عندنا الى المعرفة الذهنية والبحث الكلامي فتفقد بذلك قوة العصب وحرارة العاطفة. كثيرا ما أسمع من الطلاب أسئلة عن تعريف هذه القومية التي ننادي بها: أهي عنصرية تقوم على الدم، أم روحية تستمد من التاريخ والثقافة المشتركة؟ وهل هي تنفي الدين أم تفسح له مكانا؟!

وكأني بهم يعلقون إيمانهم بالقومية على درجة التعريف من الصحة والقوة. مع إن الإيمان يجب أن يسبق كل معرفة ويهزأ بأي تعريف، بل إنه هو الذي يبعث على المعرفة ويضيء طريقها.

القومية التي ننادي بها هي حب قبل كل شيء. هي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته، لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، تفعم القلب فرحاً وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو أن الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق أنانيته الضيقة وتقربه من أفق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن إرادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. إذ أن الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه الى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق إلى الإنسانية الصحيحة… وكما إن الحب لا يوجد إلا مقرونا بالتضحية فكذلك القومية، والتضحية في سبيلها تقود الى البطولة. إذ إن الذي يضحي من أجل أمته دفاعا عن مجدها الغابر وسعادة مستقبلها، لأرفع نفساً وأخصب حياة من الذي يحصر تضحيته في شخص واحد.

إن الذي يحب لا يسأل عن أسباب حبه. وإذا سأل فليس بواجد له سبباً واضحا. والذي لا يستطيع الحب إلا لسبب واضح يدل على إن الحب في نفسه قد فتر أو مات.

فكيف يجوز لبعض الشباب أن يتساءلوا عن الحجة الدامغة التي تقنعهم بأن حبهم لأمتهم العربية يجب أن يغلب حبهم لأي شعب آخر، ويرجح على كل ميل لهم نحو طائفة أو عشيرة أو إقليم؟ وكيف يجوز لهم أن يتساءلوا فيما اذا كان للعرب فضائل جديرة بالحب؟ إن الذي لا يحب أمته إلا إذا كانت خالية من العيوب لا يعرف الحب الحقيقي. وفي رأيي إن السؤال الوحيد الذي يجوز للشباب أن يطرحوه على أنفسهم وعلى أساتذتهم هو هذا: ما دمنا نحب أمتنا بخيرها وشرها ففي أي طريق نستطيع أن نحول هذا الحب الى خدمة نافعة وعلى أي أسلوب؟

الحب، أيها الشباب، قبل كل شيء. الحب أولا والتعريف يأتي بعده. إذا كان الحب هو التربة التي تتغذى قوميتكم منها، فلا يبقى مجال للاختلاف على تعريفها وتحديدها. فتكون روحية سمحة بمعنى إنها تفتح صدرها وتظلل بجناحيها كل الذين شاركوا العرب في تاريخهم وعاشوا في جو لغتهم وثقافتهم أجيالا فأصبحوا عربا في الفكرة والعاطفة. ولا خوف أن تصطدم القومية بالدين فهي مثله تنبع من معين القلب وتصدر عن إرادة الله، وهما يسيران متآزرين متعانقين، خاصة إذا كان الدين يمثل عبقرية القومية وينسجم مع طبيعتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق