
لوحات المدائن
إيفان الرهيب وابنه إيفان
الرّسام الروسي إيليا ريبين 1885
د. محمد بدوي مصطفى
إيفان الرهيب وابنه إيفان في 16 نوفمبر 1581 هو عنوان اللوحة ويشار إلى العمل بعض الأحيان بعناوين متباينة، مثال إيفان الرهيب وابنه إيفان، مع أو بدون التاريخ، أو بعنوان آخر: إيفان رهيب قتل ابنه. وتُعنى هذه اللوحة بإيفان الرابع أو “الرهيب”، قيصر روسيا الذي حكم بين عاميّ 1547-1584 وتعتبر دون أدنى شك من التحف العالميّة الخالدة التي تجعلها تتبوأ مركزا مرموقا لتعتبر إرث بشريّ بجدارة، أبدعتها ريشة الفنان الروسي، إيليا ريبين بين عامي 1883 و1885، والذي اتسمت أعماله بالواقعية والتفاصيل الدقيقة كما سحر المزج اللونيّ وقوة التجسيد التي وضعته في مقام واحد وعمالقة الفن.
يعرف عن إيفان القيصر أنه وبالرغم من توقد ذكائه وحساسيته المفرطة كانت شخصيته مضطربة، معقدة وغامضة إلى أبعد الحدود، ويرجئ بعض المؤرخين ذلك لما عانته هذه الشخصية من تداعيات عديدة تضمنتها العراقيل والدسائس ذلك منذ نعومة أظافره، فضلا عن المؤامرات العديدة من قبل الطبقة الارستقراطية التي كانت تحيط به، من نبلاء وغيرهم.
رحل والديه وهو لا يزال في سنّ يافعة وقُضي أن يبدأ حكمه لهذا البلد العملاق وهو لم يبلغ بعد سن الرشد (الثامنة عشر) إذ بلغ يومئذ سن السابعة عشر ونيف. ومنذ أن تولى الحكم سارع بأن يطلق على نفسه لقب “قيصر” وهو الأول الذي حمل هذا اللقب في تاريخ قياصرة روسيا على الإطلاق. شابت فترات حكمه العديد من الحوادث الرهيبة والدمويّة، على شاكلة مجازر دامية، فضلا عن حملات التنكيل والتمثيل والقتل والابادة التامّة والسَّجن الذي ألمَّ بأسر بكاملها وطال حتى النبلاء وعظماء الشخصيات ناهيك عن معارضيه من جهة، أو من جهة أخرى طبقات الشعب المكلومة على أنفاسها السنين الطوال، الماثلة والجاثمة تحت سطوته وجبروته. لقد خلق ريبين هذه اللوحة بريشته الخلاقة بعد حادثة اغتيال القيصر الروسي ألكسندر رومانوف الثاني الدموية وجاء هذا الإحساس العارم لكي يعبر عن رفضه التام لجميع ارهاصات العنف وتجلياته، من سفك الدماء والقتل والدمار.
تجسد اللوحة التي تتخلل أركانها لون النكبة وألوانها أطياف الحزن إيفان الرهيب وهو يحضن ابنه وقرّة عينه الذي أصيب بجروح فتاكة وحسب المآثر السائدة أن إيفان هو نفسه الذي سدد هذه الضربات الفتاكة لابنه بصولجان حكمه عندما انفجر غاضبا عليه إثر مشادة ونقاش دار بينهما. ويصور ريبين الأب القيصر محتضنًا ابنه وخليفته حزيناً متألماً، نادماً ومفجوعاً من هول ما فعل. لقد حاول إيفان انقاذ روح ابنه، ولكن باءت مساعيه كلها بالفشل وبقت دون جدوى. لقد كان لهذه الحادثة بالغ الأثر على روحه المتهالكة المضطربة داخليا – كما عرف عنها – فازداد توجسه بالحياة والناس، وما كان منه إلا أن اعتكف بصحن الكنيسة حيناً من الزمان وهل كان هذا الانطواء سببا في ازدياد وحشيته وقمعه في كتير من الفترات والأحيان؟ على كل حال مع مرور الأيام والاضطرابات التي ألمت به أصيب القيصر بعد عامين فقط بمرض عجيب غريب جعل جسمه يتكدّم، يتكوّر وتورم، وتنبعث منه روائح نتنة منفرة. مات بعدها في عام 1584 حيث بلغت مدّة حكمة أكثر من ثلاثة عقود وحدث ولا حرج.
أما فيما يتعلق بالخلفية والمحتوى فقد ذكر ريبين في مذكراته إنه استوحاها من مقتل القيصر الإسكندر الثاني عام ١٨٨١، ومن ثمّة من مصارعة الثيران الدموية التي شهدها في عام ١٨٨٣. جدير بالذكر أن ريبين استوحى موضوع عمله أيضا من الحفل الموسيقي الذي حضره في ذات اليوم للفنان ريمسكي كورساكوف الذي عزف سيمفونيته الشهيرة آنذاك “عنتر” مستخدما إحدى أبرز الأحداث والشخصيات الدموية في التاريخ الروسي.
مقاسات اللوحة هي 199.5 × 254 سم ويتبدى فيها شخصان هما إيڤان الرهيب وابنه إيڤان في غرفة موحشة مظلمة يزداد وحشتها على خلفية سجادة حمراء وسجاد آخر بألوان مختلفة يغلب عليها الأحمر العنيف – أغلب الظن فارسيّ مزركش بهيّ وباهظ الثمن، ويكسر نور هذا البهاء اللون الأسود الكئيب لمعطف إيڤان والذي يتنافر مع رداء الابن الضحية، الذي تتبدى عليه علامات الرخاء والسعة: رداء ستان ورديّ باهظ، أحذية خضراء فائقة التطريز، مع خلفية السجاد الفاخر الذي ارتمى عليه. من جهة أخرى يوحي جهاز الغرفة بروح الأنتيكة، وأغراض – كالكرسي المقلوب وخلفيات الحوائط وفرن التدفئة المرمريّ، يمكن ارجاعها إلى قرون الرخاء والدعة السابقة، كعصر الباروك في القرن السادس والسابع عشر.
لقد استخدم الرّسام أحد أصدقائه كنموذج لإيفان الرهيب وصديق آخر كاتب للابن، وانتهى من اللوحة الزيتية على القماش في عام ١٨٨٥. وقد باعها لتريتياكوف ليعرضها في غاليري خاص به. وتعتبر لوحة ريبين هذه والتي نحن بصددها الآن من أشهر اللوحات الروسيّة على الإطلاق، وهي واحدة من اللوحات القليلة المثيرة للجدال وإرث عالميّ دون أدنى جدال.