
أ. د. عبد الله التوم
يهدف هذا المقال الى القاء الضوء على معضلة الرعاة الرحل والذين ما ذالوا يتذيلون أولويات التنمية في افريقيا التي لا تتناسب مع مساهماتهم البشرية والاقتصادية. يسري تعريف الرحل على السكان غير المستقرين والذين يعتمدون على تربية الحيوان في الحصول على ٥٠٪ او أكثر لمقابلة متطلبات حياتهم اليومية. ان ادبيات التنمية المؤثرة في افريقيا ما زالت تركز على الحيوان ومنتجاته وتعتبر حياة الترحال نمطاً متخلفاً يستوجب التخلص منه. ولعل هذه النظرة هي التي حرمت الرحل من بالتمتع باستحقاقاتهم التنموية باعتبار انهم مواطنون مثل غيرهم في بلادهم وليس فقط لمساهمتهم في الاقتصاد القومي. يظهر هذا جلياً في عجز الحكومات في تطوير منظومة خدمية تتوافق مع حياة الترحال في مجال التعليم والصحة والأمن وغيره.
يبلغ عدد الرحل في افريقيا ٢٠ مليون حسب التعريفات المتشددة في حين ترفع التعريفات المرنة تعدادهم الى ٢٠٠ مليون، معظمهم في حزام الساحل وتتفرد موريتانيا بأعلى نسبة سكانية للرحل بمعدل ٥٠٪. ويملك الرحل ١٨٪ من البليون راس من الماشية في إفريقيا والتي ترعى في أكثر من ٦٦٪ من أراضي القارة. وكما ذكرت في مقدمة هذا المقال، فإن الرحل لم يجدوا حظهم في سياسات الدول الافريقية ويرجع المحللون هذا الخلل الى التأثير السلبي الذي خلفته نظرية قارت هاردن والتي شاعت في ستينات القرن الماضي. ما زالت هذه النظرية تهدي صانعي السياسة في افريقيا بالرغم من انها انهارت امام أبحاث العلماء المتخصصين في مجال الرعي والرعاة. ظهرت هذه النظرية في إحدى إصدارات هاردن تحت عنوان “مأساة الأرض المشاعة”، ويشير الكاتب الى النظام الذي يجعل الأرض مملوكة للجميع ويمكن استغلالها للرعي او الزراعة. يستخلص هاردن في قراءته ان الملكية المشاعة للأرض يمكن المستثمر من الانتفاع من الأرض دون تحمل تبعات إفقارها والتي تقع على الجميع. يمضي هاردن الى ان هذا النمط يؤدي الى سوء استغلال الأرض والذي يمكن تفاديه بخصخصة ملكية الأرض المشاعة والابتعاد عن الرعي الحر. من هنا نبعت فكرة ان الرعي المترحل نمط متخلف يهدد البيئة ولا يتماشى مع الزيادة المضطردة للسكان وفوق ذلك فإن إفقار الأرض يقود لاحقاً الى تدني انتاج الماشية. لقد اثبتت الدراسات المناوئة لهاردن فساد نظريته كما أوضح في الفقرات القادمة. وبنظرة عامة، فان نظرية هاردن تدعونا الى التقهقر الحضاري حيث ان تدجين الحيوان جاء بعد اكتشاف الزراعة والتي أعقبت حقبة الصيد وجمع الثمار. بمعنى آخر، شرع الانسان الأول في الترحال لمجابهة فشل الزراعة المستقرة في الوفاء بمتطلبات الحياة.
في مجال الاقتصاد، يساهم الرحل ب ١٠ الى ٤٤٪ من اجمالي الإنتاج المحلي. وتقدر مساهمتهم في مجال الإنتاج الزراعي في افريقيا ب ٣٨٪. اما في دول الساحل والقرن الافريقي، فينتج الرعاة الرحل ٦٠٪ من لحوم الابقار، ٤٠٪ من لحوم الحيوانات الصغيرة و٧٠٪ من الالبان ومنتجاتها المختلفة. وهذه المساهمة الجبارة تأتي بالرغم من ان الرحل يمثلون ١١٪ فقط من سكان هذه المنطقة ويعانون فقراً يبلغ ٨٠٪ فوق المتوسط. تعتمد بعض الدول كثيراً على الإنتاج الرعوي في تعزيز مواردها من العملة الصعبة. على سبيل المثال، فالمنتجات الرعوية تأتي في المرتبة الثانية بعد البن في اثيوبيا وتحتل المركز الرابع في صادرات اوغندا. لقد تنبه الاتحاد الافريقي لهذه المعضلة واوصي بدعم الرعاة بما يعادل ٣٪ من الاستثمار العام ولكن ظل نصيبهم اقل من ذلك كثيراً. على سبيل المثال، يساهم الرعاة ب ٢٠٪ من جملة الناتج المحلي و١٢٪ من العملة الصعبة في اثيوبيا في حين يتلقون ٠.٣٪ فقط من ميزانية الدولة للاستثمار العام.
ويعاني الرعاة من القوانين المقيدة لتجارة الحدود مما يؤدي الى تدني مكاسبهم. ففي شرق افريقيا، تبلغ تجارة الحدود $٣٠٠ مليون ولكن قوانين الدول المختلفة تمنع الرعاة من الاستفادة القصوى من هذا القطاع الاقتصادي الهام. تقول الاحصائيات ان رعاة كينيا يخسرون ٣٠٪ من جراء القوانين السلبية الخاصة بتجارة الحدود.
قلنا سابقاً ان نظرية هاردن حكمت على الرعي بالتدني الإنتاجي وعدم استطاعته في مجاراة النمو السكاني في المنطقة ولكن الدراسات اثبتت قصور هذه القراءة. تقول احدى الدراسات التي تتبعت النمو في الساحل لعقدين من الزمان ان عدد السكان قد صعد بمعدل ١٠٠٪ الي ٢٥٠ في حينما سجل نمو الثروة الحيوانية عند الرعاة ٣٠٠٪ الي قرابة ال ٥٠٠٪. ليس هذا فحسب، بل ان إنتاجية الرعاة الرحل فاقت إنتاجية المستقرين بما فيهم المزارع الحديثة. تشير إحدى الدراسات ان مزارع الحيوان الحديثة في الولايات المتحدة الامريكية وأستراليا تنتج نصف كيلوغرام كحد اقصى من اللحوم للهكتار الواحد في مقابل أكثر من ٣ كيلوغرامات عند الرعاة لنفس المساحة. نضيف الى ذلك صحة الحيوان عند الرعاة في مقابل رصفائهم المستقرين في افريقيا. تؤكد الدراسات ان عائدات ماشية الرحل تتفوق في مجال اللحوم والالبان وان معدل وفيات العجول تقف على ١١٪ عند الرعاة في مقابل ٤٠٪ عند المستقرين.
يدعي بعض اتباع هاردن ان الرعي المتنقل يقود الي افقار البيئة وجعلها غير صالحة للزراعة بشقيها الحيواني والنباتي ولم يصمد هذا الاستنتاج ايضاً امام النقاد والذين يرجعون التدهور البيئي الى عوامل خارجية بما فيهل الزراعة – المستقرة. يقول النقاد ان التحول من الرعي الى الزراعة يقلل تخزين الكربون بواقع ٩٥٪ فوق الأرض و٥٠٪ تحتها وهذا خطر على البيئة، ثم ان الرعي لا يهدد الغطاء الغابي مثل الزراعة، تقليدية كانت ام حديثة.
لم يسلم الرعاة ايضاً من وصفهم بالعنف والضلوع في الحروب القبلية والارهابية والتمردية وهذا ايضاً اتهام باطل. يعيش الرحل في المناطق المهمشة في بلدانهم وهذه هي مهد التمرد على السلطات القومية والدولية على حد سواء. لقد اثبتت دراسات كثيرة ان طبيعة حياة الرحل تحتم عليهم الجنوح الى السلم ونبذ العنف. يخالط الرعاة قبائل عدة في ترحالهم مما أدى لوصفهم بأنهم افريكانيين بالسليقة. وتفرض حياة الترحال واقعا آخر يجعل التعايش السلمي أفضل من الجنوح للحرب نسبة لبعدهم عن أقاربهم في معظم فصول السنة ولا يتسنى لهم استنفار أهلهم للحرب المفاجئة قياساً بالمستقرين. لعل هذا هو سبب نجاحهم في تجاوز أكثر من ٧٥٪ من نزاعاتهم مع الآخرين سلميا ودون أي تدخل خارجي.
في الختام، أتمنى ان نتجاوز مترسبات نظرية هاردن في سياساتنا التنموية المتعلقة بالرحل ونشرع في وضع خطط تعطي الرعاة حقهم بالكامل حتى يتمكنوا من المساهمة الفاعلة في تطوير بلادهم. ان مراعات حقوق الرعاة لا تتأتى فقط من الدور الاقتصادي الذي يقومون به، بل من منطلق المواطنة التي يتمتع بها كلٌ في دولته.