ثقافة وفن

وحي الفكرة

تأملات حول العلم والمعرفة

محجوب  الخليفة

▪️بواعث التفكير والتأمل والمراجعة تبقي نادرة في زماننا المصبوغ بالسياسة والمحاصر بوسائل تصادر حريتنا باستخدام الحرية وتعتقلنا باستخدام ثوراتنا نفسها لتكون الثورة من أجل رفع المعاناة هي استدعاء أخطر أنواع المعاناة ، ولعل أغرب ما يثير الدهشة هو استخدام العلم لنشر الجهل ، إذ ان المخيف جدا ان يضع الأذكياء الوسائل الذكية في أيدي الجهلة والأغبياء والمخادعين.

▪️عدت بالذاكرة إلي الكتاب الذي شرعت في تأليفه منذ سنوات ، ولكني لم أبلغ تكملته، ربما لحالة متعلقة بتقلبات البيئة التي لا تشجع علي إنجاز المشاريع المفيدة ، قلت عدت اليوم بالذاكرة إلي تلك الصفحات من مشروع كتاب اسميته (العالم والجهل المعرفي) عندما تساءل احد الاخوة قائلا: – هل آدم هو أول البشر ؟ ام ان هناك بشر سبقوا آدم إلي الوجود؟ وكيف نفسر قول الله تعالي في سورة البقرة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيهاو يسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) الآية 30البقرة، ربما كان الاخ صاحب التساؤل واسمه (صلاح) ينتظر إجابة من شقيقي الأكبر (محمد) بحكم ثراء معرفته وتجربته، وانا ادرك تماما ان صاحب السؤال ازهد في ان يجد إجابة لحيرته عندي.

▪️سمح لي أخي الأكبر بأن اتحدث بعد أن استشعر بذكائه  المشهود رغبتي في استدعاء ما لدي حول ما اثاره صاحب التساؤل ، فألتفت إلي صاحبنا قائلا: آدم هو أول البشر ولم يسبقه إلي الأرض بشر ، وهو ليس أول مخلوقات الله بالتأكيد ، ومن الخطأ ان نفهم من قول الملائكة  (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) بأنه كلام مبني علي الحدوث والتحقق والمشاهدة السابقة ، لأن الفهم علي ذلك النحو يتصادم مع آيات قرآنية أخري وأحاديث  نبوية صحيحة تؤكد ان آدم هو أول البشر ومنه توالدت الأمم وتكاثرت ، والسؤال يظل قائما ولكن علي نحو مغاير وهو (كيف عرف الملائكة ان آدم وذريته البشر سيفسدون ويسفكون الدماء في الأرض؟؟)

▪️والإجابة علي السؤال تستدعي ذكر أنواع العلم علي النحو والاجتهاد الذي دونته علي تلك الصفحات التي تنتظر ان تتحول إلي كتاب بمشيئة الله.

فالعلوم اربعة وهي كالآتي

الأول: – علم الأحكام(الشريعة)

الثاني (علم الأسرار ) وهو متعلق بسر أقدار الله السابقة والآنية (ونموذجها  ما جاء في سورة الكهف من مقابلة علم الأحكام الشريعة المتفوق فيه سيدنا موسي وعلم الأسرار المتمكن فيه بعون الله الرجل الصالح الخضر ) فخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار هي كلها مستنكرات بالتقييس علي علم الظاهر أو الشريعة ، ولكنها شرعية وفق علم الأسرار ، والمدهش أنها ذات الأفعال التي حدثت  لسيدنا موسي نفسه ، فهو اعترض علي خرق السفينة وهي في البحر لتحقق الخطر ونسي أنه القي به في البحر وهو طفل صغير  فالبحر بفهم الظاهر خطر ولكنه بفهم أسرار الله أمان (الأمان في الخطر)  ، ثم ان موسي الذي امتعض من قتل الغلام (قتل النفس) هو نفسه من قتل نفسا وكانت سببا في هجرته إلي مدين ، وبذات الطريقة اعترض علي بناء الجدار بلا مقابل  بينما هو نفسه  من سقي لبنات شعيب بلا مقابل.

العلم الثالث: – علم سر القدر، وهو متعلق باطلاع الله لمن ارتضي من رسله علي الغيب فيما سيحدث من اداره مستقبلا، ودليل ذلك العلم موجود في القرآن الكريم فقد ورد في سورة الجن الآية26 (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا، إلا من ارتضي من رسول ).

وهو ذات العلم الذي يبدو ظاهرا في مخاطبة سيدنا يعقوب لابنه يوسف عندما حكي له رؤياه فحذره من ان يقص رؤياه على إخوته حتى لا يكيدوا له كيدا وهو ما تحقق فيما بعد، ثم قوله لأبنائه عندما طلبوا منه ان يسمح لهم باصطحاب يوسف فأخبرهم مسبقا وقبل موافقته بأنه يخشى من ان يرجعوا اليه ويقولوا له (أكله الذئب) وهذا ما حدث منهم بعد عودتهم ليقولوا نفس الكلام الذي تنبأ به سيدنا يعقوب وذلك علم سر القدر نفسه.. وهو نفسه العلم الذي منحه له الله ليقول لجلسائه بعد ان فقد بصره (إني لأجد ريح يوسف) قبل ان يحمل إليه أولاده قميص ابنه يوسف يشمه وضعه على عينيه فيسترد بصره بفضل الله.

هنا تأتي الإجابة على سؤال (صلاح) ودهشته من معرفة الملائكة بما سيبدر من آدم وذريته من فساد وسفك دماء في الأرض، إذا لم يكن هناك بشر سبقوا آدم إلي الأرض فشاهد الملائكة فسادهم وسفكهم للدماء؟ فهنا يتجلى علم سر القدر وهو إطلاع الله ملائكته لما سيحدث من البشر في الأرض مستقبلا، فمعرفتهم جاءت مما منحهم الله من علم.

العلم الرابع (العلم الدنيوي القائم على التجريب والتدريب) وهو علم يستوعب كل العلوم المرتبطة بالاجتهاد البشري في الطب، والفلك، والتاريخ، والرياضيات، والكيمياء والفيزياء، والتقانة ونحوها.

وما يجب أن نؤمن به بأن كل العلوم المذكورة بما فيها العلوم الدنيوية هي جميعها منح إلهية وإن اختلفت طرق تحققها، ونتمنى ان نكمل في مقال آخر أدلتنا التي تؤكد ان المصدر الأول للعلم هو الله الواحد الأحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق