
أسامة الطيب
وكانت “عطبرة” كلّها هناك، فريق “الوادي” و”الوطن” و”الأمير” و”الأمل” و”الشاطئ” و”الهدف” و”الأهلي” و “الفلاح” و”الجبل” و”النسر” و”النيل” و”الكوكب” و”الاتحاد” و”الدينمو” قهوة “ود البيه” “مطعم الدبل” وفي يده “دفتر الجرورة” محلات “جنة الفواكه” “القوصي” ومحلات “الطير الأبيض” ومحلات “ابوخليل” و”البان جديد” و”الملتقى” و”سينما الوطنية” و”سينما الجديدة” و”سينما الجمهورية” و”فرن عبدالفتاح” بباسطته الحارّة، و” بوليس الشمالية” و”بوليس السكة حديد”، و “المدفعية” – ولم تكن تتأخر حينها – و”حبيب باسطة”، و”عطارة أب شنب” و”المساجد” كلها و”الكنيسة” و”أسمنت عطبرة” و” الكماين”، يتناوبون جميعهم على قطعة الأرض الواقعة قبالة مدرسة عطبرة الجديدة ” مدرسة الجلود” لأنها بنيت بجمع جلود الأضاحي، قطعة أرض يمتلكها” العطبرواي” ولكن عطبرة تبنيها، تبنيها لباني وجدانها، تبنيها بالدمع والقفشات والحكايات والنكات، وكل نكهات وسحنات أهلها، تبنيها بما سكن من أغنيات في مجاري دمها، وما فاض من ألحان في كلامهم، وما لمع من قصائد في ونسهم وشجارهم، و احتداد نقاشهم في أمر محبةٍ أخرى يعلمونها، اصطفّت عطبرة تبني بيت “حسن خليفة العطبراوي”، لا يقف ببدلته الكونغولية الرمادية، ولكنه يلبس “لبس خمسة” ويتجوّل في وسطهم يرفع طوبةً ويخفض قدحاً، حتى فرغت المدينة من البناء، الجدار فيه فتحات مربعة من الخارج، كأنهم كان يتركون فراغات يتنفّس عبرها الود الكبير المقيم هناك، والذي كان يحلّق فوقهم، وسكن أهله وهم يضجّون بمعانٍ لا تكاد الأبجدية إدراكها، فيسبقهم بها حمّيد (لو توصف هواك أغاني او تنصف وفانا ابيـــــــات، كان شلت المجرّة كماني وأقلامي النجوم ضاويات، الا آ طيبة جا وهبّانى حبك ونوّر التايات) فيستلفها الفنان ويبتسمها في وجوههم، هي، لا (في الأسى ضاعت سنيني)، ترى الدمع من بين عدسات نظارته، يرسم كريستال المحبات العظيمة، ليس مالحاً كعادة الدمع ولكنه طاعماً كطعم أهل “عطبرة” ملح الأرض وأيقونة النضال، يبكي وهو يتمتم (وحات الريدة ما بننسالو عشرة) ويقف غير بعيدٍ منه التاريخ، يرصد ذاكرة المدينة وهي تُشيّد مع كل قدح مونة وطوبة، مع كل مسحة مسطرين، ومع كل خيطٍ يمتد من زاوية لأخرى ليضبط استقامة المبنى، و استقامة القيم الحشيدة في بياضه، وكأن الأسمنت يومها اختلط بالتاريخ والثقافة والتراث ونبض المدينة، وفي كل خفجة طينٍ حينها، او خفقة قلبٍ ساعتها، كانت بصمة كل الأيادي طُبعت عليها، فصحّ ان يسمىّ “بيت الأمة” وقريباً منه تصطفق أمواج العطبرواي النهر(والخلا بأبيارو، وبأزيارو، غدرانو التِتْرارَى مِرايي، شوك غابو الحانّي على أطيارو، قش الله الوين زيّو مِلايي، وفوق عزِّي مكرّم ما دِلاَّ، وأنا حر في بلدي وفي رأيي) يغمغم بها وهو يجلس على كرسيه القماش يطالع الصبية يتوافدون على “مدرسة الجلود” يحييونه بفخر، ويجيبهم وجِيبه الحاضر، وحلمه المستقبل.
وحينما كانت “عطبرة” المدينة الفريدة، تعيش بلا طبقاتٍ سوى الإنسانية، وبلا فوارقٍ غير درجات المحبة، وبلا اختلافٍ عدا سحنات الوجوه الباسمة، وبكامل جوهر “البني آدم” وكان اشهر دكتور فيها القبطي “فلبس مرقس محروص” يحجّ الناس كلهم إلى عيادته في حيّ السوق، تفتح في ميدان المولد، يحيطها العبق النبوي المادح، ويسكنها سماح المسيح الكامل، وكلما طاف ببوابتها نسيم الآذان الأليف، كلما صَحَت الأجراس في قلب صاحبها، وهفا لودّ المدينة الذي وزّعه الله على أركانها متساوياً حتى غشيَ النهر منه نصيب، فما كسر بيتاً، ولا أوقف حالاً، ولا سطا على جرفٍ تابر، ولا أقلق صحو طير ينام في عشٍ يتدلى من سنطةٍ تقترب أغصانها من صدره الماهل، حين كان أهل المدينة يحجّون لعيادة “مرقس” كان “العطبراوي” يسكب حنين ألحانه في مسيحية أخرى، يغدق عليها ولعه المسلم (يا سلوة المحزون يا قيثارة القلب الجريح، يا درةً فاقت علي الأتراب بالقدّ المليح، يازهرةً انفاسها كالعطر عبقّت الضريح، أهوي جمالك والشعور يزيّنه القول الصريح، قد هزّني منك الجمال فجئت بالشعر الفصيح، فترفقي يا هذه فالناس من جسدٍ وروح، فبحق بطرس يا فتاتي من شفا الرجل الكسيح، وبمريم العذراء و بالأحبار بالراعي الصليح، وبماري جرجس والصليب وبالكنيسة والمسيح، وبالكاردينال بفرقة البطريق بالرجل الصفوح، بالقسِّ بالمطران بالدير المقدّس بالسموح، بمعابد الرهبان بالجرس المرنِّ علي السفوح، بمشاعل الميلاد بالشجر المنوّر بالصبيح، أن ترحمي متعذباً يهواك في حبٍّ صحيح، ومتي يتم لقاءنا في شاطئ النيل الفسيح، والموج والصفصاف والقمر المطل علي السطوح، وأنين ساقيةٍ تدور وصوت مزمارٍ يصيح، وبدت نجوم الفجر بالأضواء في الافق تلوح، وتجئ شقشقة الطيور كرنّة الوتر الذبيح، فهناك ينبعث السرور علي النفوس فتستريح).
وكانت “عطبرة” كلها هناك، حتى “محمد عوارة” جاء بجنزيره، وأساطيره كلها، يدخل ويخرج دون أن يراه أحد، ويقلّد أي صوتٍ يصادفه، كانت كلّها هناك، ولكن بمشاعر غير المشاعر، وقلوبٍ تخلع دمها وتقف وجِلةً يطعنها النبض، ويشكّها خوف الغياب الطويل (وحات الريدة ما بننسالو عشرة، اه يا دنيا لو في بالو مرة، اتذكرنا او بس طيفنا مرّ، كان يا حليلو عرف الفرقة مُرة) و”العطبرواي” للمرة الأولى يرقد مسجىّ على “عنقريبه”،يستقبل القبلة، والدمع، وسحابة تاريخه الطويل تهطل، والجموع تغنيّ بكاءها المرّ ذاك، كانت المرة الأولى التي يسكت هو عن الغناء، وتغني الوحشة في القلوب الهائمة، يرقد هو، والمدينة عن بكرة أبيها تقف على رجل حزنها، تستقبل أفواجاً من المدن المجاورة “بربر” و”دار مالي” و”شندي” حتي لم يبق أحدٌ في بيته، كلهم في بيت الأمّة، وأمة اللحن والمعاني وكريم النضال ترقد صامتةً في نومتها الأخيرة، النظارة تتخلّف عن الخروج معه، وفصاحة الجبهة المسكونة بالإحساس تغرق في برودتها المميتة، البوابة التي كانت تبوح كل ليلة للعابرين حكاياتهم وقصص وجدهم، يبست شفاهها من الابتسام، واعتصرت ترباسها الجريح، “عطبرة” كلها كانت تعرف أن يومها ليس كأمسها، وأن ندبةً مستديمة ستسكن الغد، و”حسن خليفة العطبراوي” يركب صهوة حياته ويرحل، الشوارع تغصّ بالناس والمشاعر والدموع والنحيب، والمقابر تكاد تهرب من وقع الخطأ المتجهة نحوها، وما أن يفرغ “العنقريب” من شاغله الذي ظلّ يشغل العالمين و”عطبرة”، حتى تبرك القطارات في قضبانها، وتسقط العجلات في صريرها، وتنكفئ المحطة على مواسيرها تشهق ماء الحسرة، يغنّون (مالك ما اعتيادي؟ بقيت تزعل تعادي، كتير بتشوفنا انت تمر بي غادي غادي، نعاين ليك ماشي نقول بتجينا غاشي، بتابا كمان تسلم وبرضنا ليك نماشي، لأنك انت عارف لمّا تجينا غاشي، خليك اعتيادي، زي الطيف تعدّي وفي عينيك تحدّي فايت بي طريقنا وابدا ما بتهدي، عاوزين نحن نعرف قبل الريد يعدي، مالك ما اعتيادي) وأيقنت المدينة أنها فقدت أحد نهريها، ولم يعد فيضان المحبة والألحان ممكناً، وكانت المرة الأولى التي يبدو “العطبراوي” النهر وكأنه “ما اعتيادي”، وكأن رعشةً سكنت جوفه لحظتها كادت تسافر به إلى مقابر الشرقي، حيث أقام “العطبراوي” الفنان، بعد أن ترك للأمّة دارها، ومضى.
(يتبع)