
في حوار مع الكاتب والإعلامي المغربي الطاهر الطويل
"مقامات ومقالات في المجتمع والمعرفة والإعلام" محاولة لتجسيد المثقف العضوي
كاتب وإعلامي مغربي ابن مدينة تمارة القريبة من العاصمة الرباط، يقطن حاليا في مدينة القنيطرة القابعة على ضفاف نهر سبو والذي يصب بالمحيط الأطلسي في سيمفونية تمزج بين طياتها عبق التاريخ والحاضر والمستقبل والتي كان لها دور مهم في تشكيل هذه المدينة المغربية الأطلسية.
ولج الصحافة من بوابة الأدب، حيث نشر العديد من النصوص الشعرية والقصصية منذ حداثة سنه، وأردفها بكتابات ومقاربات نقدية في الفن والأدب، قبل أن يلتحق للعمل رسميا في صحيفة “الميثاق الوطني”، أواخر الثمانينيات، مُزاوجًا بين الدراسة الجامعية ومزاولة مهنة المتاعب. نشر مقالات وقراءات نقدية في مجموعة من الصحف والمجلات العربية (العربي، اليوم السابع، الرافد، الدوحة، الشارقة الثقافية، القدس العربي… الخ)، ودخل تجربة الإعلام السمعي البصري منذ ستة عشر عاما، من خلال التحاقه بالقناة التلفزيونية الثانية في المغرب، حيث أنجز عدة برامج وثائقية وأخرى ثقافية خاصة. وله أربعة كتب: لسان الحال، الصادر عن سلسلة شراع بطنجة (1998)، المسرح الفردي في الوطن العربي، الصادر عن الهيئة العربية للمسرح بالشارقة (2015)، مرايا النفس المهشمة، الصادر عن مكتبة سلمى الثقافية بتطوان (2019)، ثم كتابه الجديد، علاوة على مشاركته في كتب جماعية.
في عمله الأخير “مقامات ومقالات في المجتمع والمعرفة والإعلام” الصادر عن حلقة الفكر المغربي بمدينة فاس، يتحفنا الطاهر الطويل صاحب النظرة الاستشرافية الإعلامية والصحفية الثاقبة، من خلال مقارباته ومنهجيته التي تعيد صياغة الماضي والحاضر وتشكيله ببعد مستقبلي. مثل توأم روح الرواية العالمية اللاتينية “أفواه الزمن” Bocas del tiempo للكاتب والصحافي الأوروغواني إدواردو غاليانو؛ يعتبر العمل الأخير للطاهر الطويل ضمن الكتابات الصحفية ذات النكهة العربية المغربية والتي تحمل في أحشائها مجموعة من الحكايات الصغيرة التي تروي قصة واحدة لموضوعات متعددة ومتنوعة بطريقة متسلسلة، كتبت في أزمنة مختلفة، من خلال مفارقات وتأملات الكاتب في التاريخ والسياسة والحياة، وفي استحضار لأكثر التفاصيل ودية بين مختلف مواضيع دفتي الكتاب.
انها لوحة فسيفسائية في شكل نثر وصحافة وشعر، فالطاهر يحاول تشكيل ملامح الواقع وقضاياه، عبر مجموعات تأملية صغيرة تمتزج مع بعضها البعض في مزيج وقالب أدبي رائع، من خلال استعمال لغة حساسة ودقيقة تتدفق فيها الكثير من المشاعر، كما يتم إدراجها في السرد بفضل بنيوية مقالات الرأي، ويختتم الكاتب تأملاته باستنتاجات معينة وإسقاطها على الواقع.
حملنا إلى الكاتب الطاهر الطويل عدة تساؤلات لسبر بعض أغوار كتابه الأخير وتأملاته في الفكر والثقافة من خلال هذا الحوار:
حاوره عبد الحي كريط
< بداية، نشكركم على تلبية الدعوة لإجراء هذا الحوار في جريدة المدائن بوست. أول شيء عندما نشاهد غلاف الكتاب والذي زين بلوحة فنية تشكيلية تشدنا كقراء لمعرفة فحوى هذا الغلاف والذي يبدو انه انعكاس وجداني للكاتب ما دلالة هذا الغلاف الفني؟
> مكونات الغلاف عتبات متعددة للدخول إلى عوالم الكتاب واستكناه أغواره والإبحار في دلالاته المتعددة. واللوحة واحدة من هذه العتبات. ناشر كتابي الجديد (حلقة الفكر المغربي في فاس) اختار لوحة للفنان السوري موفق مخول. وأعتقد أن للوحة لغتها الخاصة التي تتيح قراءات متعددة، وبالتالي لا يجوز لي إعطاء قراءة حصرية أحادية لتلك اللوحة باذخة البهاء، لأن في ذلك تقييدا للمعنى، ومصادرة لحق المتلقي الذي يبقى له المجال في قراءة العمل كما يريد. ومع ذلك، أعتقد أن القاسم المشترك بين رؤية الفنان موفق مخول والرؤية التي أحاول تجسيدها من خلال هذا الكتاب، يتمثل في أن المبدع ينبغي أن يكون ملتصقا بقضايا الناس، معبرا عنها، ومجسدا لآلامهم وآمالهم في الكرامة والحرية والاستقلالية. بمعنى آخر، أن يكون المبدع “مثقفا عضويا”، بالمعنى الذي طرحه غرامشي منذ سنين عديدة.
< كيف توصلتم إلى فكرة تأليف هذا الكتاب؟
> نصوص الكتاب مقالات قصيرة ومكثفة، أشبه ما تكون بـ«الكبسولات» كُتبتْ في أزمنة مختلفة، تمتد من منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى مطلع سنة 2014، ونُشرت في منابر مغربية وعربية متعددة، ضمن أعمدة بمسميات شتّى: فمن «التكسكيسة» في صحيفة «الميثاق الوطني» إلى «التقويسة» في صحيفة «الصباح» مرورا بـ«تداعيات» و«فضائيات» في صحيفة «القدس العربي» و«فضفضة» في مجلة «السيدة الأولى» و«زاوية حرة» في صحيفة «صوت الجهة».
وحين انتقلت تلك المقالات من الأعمدة إلى الكتاب، كان طبيعيا أن تدخل عليها بعض التعديلات الطفيفة، بدون أن يمس ذلك ببنيانها ومضمونها الذي لا يختصّ بزمان أو مكان محددين.
< ماهي أبرز التحديات التي واجهتك في إخراج هذا العمل الأدبي الإعلامي إلى حيز الوجود؟
> أهم التحديات يتمثل في الوصول إلى الناشر الجاد الذي يقدر قيمة العمل الثقافي، ولا يعتبر الكتاب مجرد تجارة فقط. صحيح أنه لا اعتراض في أن يحقق الناشر الربح المادي من وراء الكتب، فذاك حقه وشرط لاستمرار عمله، ولكن بشرط ألا يتم ذلك على القيمة الاعتبارية والمعنوية والنفسية للكاتب. فهذا الأخير يطمح دائما إلى مَن يقدّر عمله، ويحتفي به، ويقدمه إلى القراء بالشكل اللائق، وغالبا ما لا يضع الجانب المادي في الحسبان.
لذلك، حينما اقترحت على المبدع الصديق الدكتور جمال بوطيب مشروع الكتاب، قابله بالترحاب المعهود فيه، فهو مثقف جاد وذو حس إنساني وتواصلي رفيع، ويحظى باحترام الأوساط الثقافية المغربية والعربية، لجديته ومصداقيته ونبل أخلاقه. ومعلوم أن الأستاذ بوطيب يدير مؤسسة ثقافية وازنة، هي حلقة الفكر المغربي، التي تقيم العديد من الفعاليات الثقافية والأكاديمية الوازنة، كما تساهم في حركة النشر والتأليف من خلال إصدار كتب ودوريات، وقد دخلتْ منذ شهور تجربة نشر “كتاب الشهر”، مساهمة في تقريب المؤلفات من عموم القراء في مختلف مناطق المغرب.
< هل من رسالة تحملها المقامات والمقالات في كتابكم؟
> توصف الكتابة بكونها اقتناصاً للحظة الهاربة، التي إنْ لم يُعبـَّـر عنها في الحين تنفلت من عقال الكاتب، وقد تستعصي عليه فيما بعد. بيد أن الكاتب لا يكتفي باقتناص العابر وحسب، وإنما يروم أيضا سبر أغوار العناصر الجوهرية في الوقائع والمشاعر والطباع، وفق رؤيته الخاصة. لا يدّعي الكاتب أنه يبتدع أمرا جديدا لم يسبقه إليه أحد، فالمعاني مطروحة في الطريق، كما قال الجاحظ قديما، ولكن عمل الكاتب يكمن في طريقة صوغها والتعبير عنها، أي في التوليفة التي يحدثها بمخياله أولا، وبأسلوبه ثانياً. ومن هنا، فالمقالات التي تضمها دفتا هذا الكتاب، تجسّد سعيا حثيثا إلى ضمان حضور ملموس ومستمر للكلمة فالكلمة تأبى البياض والسكون.
< ما هو تصوركم للروابط الثقافية بين الصحافي والكاتب من جهة؟ والكاتب الصحفي؟
> الأدب والصحافة، والواو بينهما ينشئ علاقة فريدة، أهو واو عطف؟ أم إنه يفيد هنا التراتبية والتعاقبية؟ نبادر إلى القول إن العلاقة بينهما علاقة اتصال لا علاقة انفصال، وإن صلة الوصل بينهما هي الكلمة بسلطتها وعنفوانها وتجلياتها وتأثيرها وشحناتها الدلالية. فبينما يُؤسطر (من الأسطورة) الأدب الكلمة، تمنحها الصحافة طاقتها التداولية السريعة.
صحيح أن الأدب سابق، والصحافة لاحقة، لكنهما سرعان ما تآلفا وتساكنا ونسجا بينهما زواجا للإمتاع، إمتاع الآخر، سواء كان موضوعا للكتابة أو كان مرسلا إليه. ولئن بَــدَا مجال الأدب إيحائياً مجازيا، ومجال الصحافة تعيينياً إخبارياً، فإن الصحافة استعارت من الأدب رداء اللغة البهي، واستعار الأدب من الصحافة قنواتها التواصلية. التقيا عند المتلقي هدفا مشتركا لهما، حتى بعد أن صار للصورة حضورها في الصحافة المكتوبة والمرئية والإلكترونية.
ولن نستغرب إنْ وجدنا كثيرا ممن امتطوا صهوة مهنة المتاعب هم أدباء قبل أن يكونوا صحافيين بالمعنى الحرفي. كما أن الصحافة قامت وازدهرت بفضل كتاب وليس مهنيين. ويمكن أن نستدل على ذلك بالأسماء التالية: عباس محمود العقاد، طه حسين، أحمد أمين، جرجي زيدان، ميخائيل نعيمة، علال الفاسي، محمد بلحسن الوزاني، سعيد حجي، عبد المجيد بن جلون، عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي، إدريس الخوري، محمد الأشعري، عبد الرفيع الجواهري… وغيرهم.
وجد الأدب ــ إذنْ ــ ضالّته في الصحافة، فصار متيسرا تداول الأجناس الأدبية على نطاق واسع، وبأسلوب أكسبته الصحافة السلاسة والبساطة والانسيابية في التعبير، وفي ظرف وجيز من خلال الصحف والمجلات، وبسعر أقل من سعر الكتاب غالبا.
يتعلق الأمر ـ كما قلت يوما ـ بـ”زواج الإمتاع” بين الأدب والصحافة، وهو زواج قائم على إمتاع الذات وإمتاع الآخر، وبناء تصور فكري جمالي للعالم وللأشياء، والسعي إلى تحرير الذهنية الجمْعية من ترسبات الجهل والتخلف والإحساس بالدونية.
< راكمتم تجربة إعلامية غنية، فما هو تقييمكم للمشهد الثقافي عموماً والإعلامي خصوصا؟
> الثقافة في العالم العربي عموما والمغرب خصوصا ما زالت منحصرة في إطار نخبوي، وتحتاج إلى اعترافين رسمي وشعبي، لتغيير النظرة الاستصغارية إليها.
إنها مجرد ترف زائد ولا لزوم له بحسب النظرة الرسمية التقليدية المتخلفة. وما يترجم ذلك النسبة الهزيلة المخصصة للشأن الثقافي في ميزانيات الحكومات المتعاقبة وكذلك في ميزانيات المجالس المنتخبة (في المغرب) والتي لا تصل حتى الى واحد في المائة. إنهم يعتبرون الثقافة والفكر والإبداع مجالات ليست من الأولويات، والحال أنها أساسية لتربية مواطن المستقبل وترسيخ القيم الإيجابية في نفسه وتنمية ذوقه وإحساسه بالجمال والحياة وبمبادئ التعايش، وهو ما يمكن أن يسهم في نبذ العنف والكراهية وإلغاء الآخر.
ومما يسترعي الانتباه – على سبيل المفارقة – أن الدولة ترصد دعما ماليا كبيرا للرياضة عموما ولكرة القدم خصوصا، وتوفر لها البنيات التحتية وتستقدم لها المدربين من خارج الوطن بمرتبات خيالية وتخصص لها الدعاية الإعلامية الضخمة… فتكون النتيجة تفاقم المظاهر السلبية بين أوساط الجمهور، وفي مقدمتها العنف والتقتيل والاعتداء على الأشخاص والممتلكات العامة والخاصة… فضلا عن الهزائم المتتالية على مستوى المردودية الرياضية.
ولذلك، نقول لكافة المسؤولين في مختلف مراكز القرار: امنحوا الثقافة ربع ما تخصصونه لكرة القدم، وستلمسون بأنفسكم الآثار المباشرة لذلك الدعم على صورة الوطن ووعي المواطنين!
هناك ملاحظة أخرى، تتمثل في تراجع الاهتمام بالثقافة في الصحف المغربية التي أصبح جلها ينفر من الشأن الثقافي، ويعوضه بالمنوعات الخفيفة، وأخبار الحوادث المثيرة، اعتقادا بأنها هي التي ستجلب جمهور القراء، لاسيما نتيجة تراجع مبيعات الصحف المطبوعة في المغرب. ويُعزى ذلك إلى المنافسة الحادة التي تطرحها المواقع الإلكترونية الإخبارية وكذلك شبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية التي صارت، هي الأخرى، مجالاً لتداول الأخبار والتعليقات والآراء المختلفة.
< كلمة أخيرة لقرائكم؟
> في علاقتنا بالآخر/ الغربي، علينا كعرب ألا نكتفي بإنتاج ردود الأفعال، إنْ في السياسة أو في الإعلام، وإنما علينا أن نعمل جميعا على إبداع الأفعال الخلاقة والبناءة التي تخدم صورتنا كأمّة ذات هوية مشتركة منفتحة، ومساهمة في الحضارة الإنسانية الشاملة، بتفاعل وتعايش خلاّقين. ولكن، قبل تصحيح صورتنا لدى الآخرين، يلزمنا أولا مراجعة أنفسنا والقيام بنقد ذاتي لمسارنا ومنهجنا في الحياة.
السلام عليكم
أحييكم على ها الحوار الذي يعرفنا يمبدعينا ويفتح المجال للتواصل بيننا. شكرا