سياسة

خارج المتاهة

دعوات التطبيع مرةً أخرى " الخيانة ليست وجهة نظر"

محمد عتيق

بينما الملاحم الوطنية تندلع  في الأسافير يقودها السودانيون داخل البلاد ومن مغترباتهم ومهاجرهم في كل القارات : يتبرعون بسخاء لطباعة الكتاب المدرسي وتوفيره مجاناً لكل تلميذة وتلميذ في وطنهم ، لمؤازرة شعبهم في مواجهة كوارث الطبيعة من سيول وفيضانات ، ولدعم وطنهم وثورته الجبارة ، تتحدث بعض الأصوات عن “التطبيع” مع (اسرائيل) ، وهي الدعوة التي بدأت همساً من أمريكا ثم علا صدىً لها في السودان :

– صوت أمريكي يهمس به كمقابل لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب ..

  – وصدىً له ؛ أصوات سودانية  (مثقفين وأكاديميين) يتقدمهم الفريق البرهان !!

كلاهما نشاز : الصوت الامريكي وصداه عند بعض السودانيين ، شاذ ، نشاز وبائس ينحرف بالقضايا والمطالب والأولويات المطروحة أمام الثورة السودانية التي تتساءل عن العلاقة بينها وبين التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني.. يتململ الشعب السوداني وقواه لتصويب خطى الثورة وخططها وتأتي أطروحات مثل “التطبيع مع اسرائيل” لتجدد الانقسام وزيادة حدته في مجتمعنا ولتجديد الخلاف بين دعاة العروبة ومخالفيهم ، في وقت يشتد فيه البحث وترتفع الأصوات الوطنية الحادبة باحثةً عن “مشروع وطني” للسودان يكون بعض غاياته أسمدةً للاندماج بين مكونات المجتمع ..

من حق التاجر الذي يحكم امريكا أن (يحشر) في برنامجه الانتخابي للرئاسة الامريكية (نوفمبر ٢٠٢٠) ، أن يحشر ، ما يراه لكسب أصوات الجمهور الأمريكي والقوى المؤثرة في خياراته ، وفي ذلك (الحشر) أن يرفع شعار تطبيع العلاقات بين “اسرائيل” ودول المنطقة ، ولكن لا يحق له في حالة السودان أن يطرح ذلك التطبيع شرطاً من شروط رفع اسمه من قائمة الارهاب ، ولذلك قاله همساً دون الاشتراط ، ايحاءاً على طريقة “تاجر البندقية” ، فالتقطته بعض القوى والأفراد وراحت مرددةً ( التطبيع ، التطبيع ) ، ومن بينهم من تعتقد حركته – على الصعيد السياسي – في حتمية قبول العرب والمسلمين باسرائيل اعترافاً وتعايشاً للتأثير فيها وتحويلها لاعتناق الاسلام !!

في حين أن البعض يردد : “العرب انفسهم اعترفوا باسرائيل وأقاموا العلاقات معها أو “الفلسطينيون اعترفوا بها ويفاوضونها وعقدوا معها اتفاقية أوسلو”…إلى اخر التبريرات التي يمكن مناقشتها لتبيان أنها فطيرة بل متهافتة:

أولاً: الموقف من اسرائيل والحركة الصهيونية التي أنجبتها ليس موقفاً عربياً فقط ، بل هو موقف إنساني شامل وأصيل ضد العنصرية واغتصاب حقوق الآخرين وإقامة الدول الدينية وإهدار كافة القيم الإنسانية..

ثانياً : إذا أقامت بعض الدول علاقات طبيعية مع “اسرائيل” لا يعني أن ذلك فرض على الآخرين.. هنالك فروق جوهرية: 

– إذا تأملنا دول التطبيع سنلاحظ أن العلاقة مع اسرائيل إنما هي بين دولة النظام المعين وليس شعب تلك الدولة ، فالنظام المعين يقوم على شرعية عسكرية أو عائلية ذات مزاعم تاريخية وليست شرعية ديمقراطية شعبية كالتي تسعى ثورة ديسمبر لإقامتها في السودان ، شرعيتهم لها ملامح مشتركة مع تلك التي يقوم عليها الكيان الاسرائيلي ، إذ يقوم هذا الكيان على مزاعم من الأساطير الخرافية في التاريخ ، على أساس دولة دينية يهودية يسود فيها اليهود الغربيون كعرق نقي نقاء الدم الآري الأزرق في الأسطورة الهتلرية التي كانت تضعهم في أدني المراتب مع الحيوانات ومارست ضدهم عنفاً أضافت إليه المزاعم الصهيونية أكاذيب أخرى كأسباب لاستدامة ابتزازها للغرب كله .. دولة يهودية ديمقراطية المظهر ، ديمقراطيةً خاصةً فقط بيهود الغرب ، مدعومة بالمال والعلم والتكنولوجيا من امريكا وعموم الدول الغربية ، من أهم واجباتها : التوسع في المنطقة وتفتيتها إلى كيانات دينية مثلها وطائفية وعرقية لتبقى هي الأكبر والأقوى في المنطقة متمددةً بين النهرين (النيل والفرات) ، شوكةً تحول دون أي نهوض وطني وقومي في المنطقة و “ترساً” متقدماً في حماية المصالح الاستعمارية والإمبريالية (الغربية والشرقية) معاً في نهب ثرواتها و”هدهدة” قيمها وتاريخها وأدوارها الإنسانية لتظل في سباتها وغيابها .. وعند ذكر “الإمبريالية والصهيونية” سيصف بعضهم ذلك ب (الشعارات البالية ولغة الستينات و ..الخ) ، بينما هي حقائق قائمة بين البشر تهضم حقوقهم وتسرق عرق جبينهم ، يراها الذي يريد ويغض الطرف عنها من يريد ، كل حسب قدراته في الرؤية الإنسانية القويمة وحسه الفطري النبيل ..

أما التشبث بمقولة أن الفلسطينيين أنفسهم يقيمون العلاقات مع اسرائيل ويفاوضونها ، فهي أيضاً مقولة تبريرية باهتة ومردودة ، لأن الموقف من الكيان الصهيوني ودويلتها في اسرائيل ليس لأجل عيون الفلسطينيين وانما هو موقف إنساني حقوقي ومبدئي ضد الاغتصاب والقتل والهدم والاستعلاء وإقامة الدولة الدينية العنصرية ، ومن أجل حرية الانسان وصيانة كرامته وحقه في الحياة وممارسة الديمقراطية في مجتمعاته منهاجاً ووسيلةً وغاية ..

   ووجود الفلسطينيين في بقية أراضيهم بجوار مغتصب  دولتهم “اسرائيل” يفرض عليهم التعامل معه حسب قدراتهم واستعدادهم في كل مرحلة ، فإذا فرضت عليهم حالة ضعف ما وتوازن قوى أن يتنازلوا ويوقعوا معها إتفاقية مثل (أوسلو) ، فإنها غير ملزمة للآخرين في دول الجوار أو الإقليم أو العالم كله .. بل عليها مراقبة كيف أن اسرائيل تتماهى مع أوهامها عند تطبيق اتفاقية أوسلو نقضاً لغزلها إلى أن وأدتها ولما تبلغ العقد الواحد من العمر !! والحديث عن “نحنا أصلاً ما عرب” و “مالنا ومال العرب”…. إلى آخره فهو حديث عنصري في المقام الأول ، ثم اننا لسنا بصدد الحديث عن أصلنا أو هويتنا مما يعني المزيد من عناصر الانقسام والاختلاف في مجتمعنا ، نحن نتحدث عن قيمنا وعن استكمال عملية الاندماج الوطني بيننا ، عن رؤانا للكون وللإنسان وحقوقه وارتقائه في مدارج الاستقرار والازدهار والممارسة الديمقراطية أساساً لمشروع وطني ننشده يؤسس للعزة والكرامة والرفاهية لبلادنا وأهلنا وللبشرية أجمع ..

ثم مفاوضات البرهان في الإمارات التي رشحت الأنباء عن مطالبته ببضعة مليارات تدعم الوضع الاقتصادي في البلاد ثمناً للتطبيع مع اسرائيل، فإن شعبنا وطلائعه وثورتهم الجبارة :

  ١/ لم تفوض البرهان لمثل هذه المساومة التي يهدف بها الاستمرار في حكم البلاد رئيساً.

  ٢/  أن سلطاته – هو والمجلس السيادي كله – شرفية في الغالب ولا تتضمن ممارسة العلاقات الخارجية نهائياً ، وبالتالي يكون الذي يفعله في أسفاره في المنطقة أفعال باطلة بنص القانون وبنص الوثيقة الدستورية ..

    ٣/ أن تسليم مقدرات الوطن (التي تستولي عليها القوات النظامية) للحكومة كافية جداً لإصلاح الأوضاع الاقتصادية للبلاد والحالة المعاشية للشعب ، وقد وصفها السيد رئيس الوزراء بأنها(أكثر من ٢٠٠ شركة تمثل حوالي ٨٠٪ من الإيرادات العامة خارج وزارة المالية ، تتبع للقطاع العسكري والأمني ، وأن الحكومة بدأت خطوات عملية لمعالجتها بحسب الاتفاق بين هياكل السلطة الانتقالية على مبدأ ولاية وزارة المالية على المال العام ..) ..

٤/ أن الثورة السودانية (ديسمبر ٢٠١٨) ، بشعاراتها وقيمها وأهدافها ،  قد رفعت اسم بلادنا  من قوائم السوء في كل مكان وبدأت في استعادة وجه السودان الإنساني الأصيل المستقيم المتحرر المسالم والمحبوب في كل مكان ، وليست مطلوبات رفعه من قائمة السوء الأمريكية بأعز من كل ذلك ولا أرفع..

٥/  وأنه لا يحق لأمريكا لا قانونياً ولا أخلاقياً أن تفرض على السودان التطبيع مع اسرائيل ضمن شروط رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب .. أما إذا دعى ترامب دول الإقليم للتطبيع مع اسرائيل ضمن برنامجه الانتخابي لجذب أصوات اليهود ورضا اسرائيل ، واستجابت له بعض الدول ، فإنه من المعيب أن يركض لذلك الفريق البرهان وعدد من السودانيين طعناً في قيم الثورة السودانية ذات الألق الديمقراطي السلمي ، النزاعة لحقوق الإنسان ، استقراره ، أمنه ، ازدهاره ، رفاهيته ومستقبل أجياله ، فهو ليس مجرد تهافت وهرولة أو ركض نحو الخيانة ، انه هي و “الخيانة ليست وجهة نظر” ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق