آراء

كوكاسيات

التربية بين وظيفة التنشئة الاجتماعية ووظيفة التمايز الطبقي

عبد العزيز كوكاس

يعرف البعض التربية باعتبارها العملية التي تنمو بواسطتها تدريجيا – عن طريق التمرين – وظيفة أو عدة وظائف نتيجة هذه العملية، ويرى “كانْتْ Kant” بأن الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان، هو أن الإنسان لا يصبح إنسانا إلا بالتربية، والحقيقة أن هذا الطرح المثالي قاصر عن تحديد وظيفة التربية داخل المجتمع، فالتربية ليست عملية محايدة وبريئة خاصة في المجتمعات ذات الطابع الاستغلالي، والمؤسسات المنوط بها القيام بالتربية ليست مؤسسات مفصولة عن باقي البنيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

إن التربية – كما عبر عن ذلك ألتوسير في سياق حديثه عن المدرسة – وسيلة للتطبيع ولتلقين الفرد القيم والأعراف ونظام التراتبية داخل المجتمع، إنها أداة لتكريس واقع الاستغلال داخل المجتمعات الطبقية، ويدخل هذا ضمن الرؤية الشمولية لمؤسسات المجتمع والعلاقات الجدلية بينها.

إن التربية هي وسيلة للاستمرار الاجتماعي، لذلك فدورها ينحصر في تلقين التصورات الجمعية المشتركة للناشئة، أي القيام بالتنشئة الاجتماعية وهي الوظيفة الأصلية للتربية، وبموازاتها ظهرت وظيفة التمايز الاجتماعي، فكل فرد يربَّى حسب مرتبته الاجتماعية، من هنا تتكامل الوظيفتان معا من أجل ضمان بقاء الجماعة اقتصاديا وروحيا، وهو ما سماه “بورديو” بإعادة الإنتاج، فليست هناك تربية واحدة داخل المجتمع الواحد، خصوصا في المجتمعات المعقدة، بل تتعدد التربيات بحسب تعدد التراتب الاجتماعي، فلكل فئة اجتماعية نمطها التربوي الخاص بها، وكل فرد يتلقى تربية تناسب مكانته داخل السلم الاجتماعي، فالتربية التي يتلقاها فرد في قمة الهرم الاجتماعي تختلف عن تلك التي يتلقاها فرد يوجد ضمن طبقة تحتل قاعدة الهرم..

إذن فالتربية تتعدد بحسب تعدد التشكيلات الاجتماعية وهي في شكلها تبدو واحدة لأنها تفرض على المنتمين إلى المجتمع الواحد قيما مشتركة للابتعاد عن خلق قطيعة تامة بين الطبقات، ولإخفاء التمايز الأصلي يدمج الكل في مجموعة منسجمة، أي أن هناك قيما عامة يتم تمريرها للكل على أساس أنها قيم المجتمع وتراثه، وذلك من أجل تفادي الصراع والتناحر الاجتماعيين وكذلك لإخفاء علاقات النفوذ التراتُبية، نستنتج أن التربية ليست عملية بريئة، فالإمكانيات التي تتوفر عليها المؤسسات المختصة أو غير المختصة لا يستفيد منها الكل على قدم المساواة، بل على العكس، فالتربية من خلال وظيفتها في التنشئة الاجتماعية تسمح للجماعة بضمان استمراريتها اقتصاديا وروحيا كذلك، وداخل هذه التنشئة الاجتماعية نجد تفاوتا وتمايزا، فالأسرة القروية الفقيرة لا تخلق المهندسين والأطباء والقضاة بل تخلق وظائف متدنية في الهرم الاجتماعي، فهذا هو دورهم الذي تؤهلهم له مكانتهم في السلم الاجتماعي، وفي أقصى الحالات قد تتمكن بعض الأسر من تأهيل أفرادها لولوج أسلاك متقدمة على مرتبتها الطبقية، لكن ذلك ليس له دلالة إحصائية.. ولعل الدراسة القيمة التي قام بها bodlot وEstablet تسعفنا في هذا المجال، فقد توصل الباحثان إلى أن المدرسة/ النظام الهيكلي للتعليم بفرنسا يعكس النظام الاجتماعي، شبكة التعليم الابتدائي المهني “P.P” وشبكة التعليم الثانوي العالي “S.S”،ـ إذ لا يستطيع الوصول إلى الشبكة الثانية إلا من زودته طبقته بالوسائل الضرورية لتجاوز العقبات الموضوعية، من هنا تتم إعادة نفس العلاقات الاجتماعية للحفاظ على التراتبية الاجتماعية.

حيث تصبح التربية هنا أداة مرشحة أكثر من غيرها لتكوين الأفراد وتنشئتهم حسب مراتبهم الاجتماعية وتأهيلهم لولوج سوق العمل، تعليم جد بسيط وجد عملي للفئات المسودة، وتعليم راقي فكري وجد عالي لاحتلال المراكز العليا والمناصب المهمة في دواليب الدولة بالنسبة للفئات السائدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق