
أسامة الطيب
وكانت كسلا تغمض عينيها على فراش القاش وهو يهفهف بأجنحته الملونة أنسام المدينة الوسيمة، وتفتحهما على أوتار الليل، تدخل كل حيّ، وكل ساقيةٍ تغزل الظلام بنسيمه العليل رسالةً صادحة لأحباء يرقدون على مخداتهم، وهم بعدُ يطوفون في دروب الونس الخضراء، ويكتبون الرسائل لحبيباتهم في خيال الأمسيات الراحلة، ويصبحون يتوكلون على دمع الوسائد، ويتوكؤون على عثرات قلوبهم الوخيزة بإبر الهوى، والرموش الجارحة، كلما حانت منهم التفاتةٍ صوب بيتٍ ناصية، قبالة محطة الباص العتيق، كلما رفرفت حمامتين من أشواقهم حينها، قبل أن يهدر هديلها الكمساري يطقطق للتذاكر، وما يدرى كم تذكرةٍ وتذكارٍ شهق حينها، قبل أن تُحدث الهجمة فعلها في قلب عاشقٍ ضيعته ليالي المدينة، وها هو صباحها يثخنه بجراح المحطة، التي كانت قبلته الأولى وما زال يحجّ إليها، وقد رحلت كعبتها لبيتٍ حرامٍ جديد، فتستوي اللحظة والتاريخ والقادم من عوجات، ويتلقفها “عبدالعظيم حركة” أصالة عن فنّه الشاهق، ونيابة عن جمهور العشّاق، فادح السيرة، قادح السريرة، مقدوح الأمنيات الخضر، ومجروح الوتر (قلبى مابعرف يعادى، اصلو مابعرف يعادى، لما يبدا القسوه قلبك، تلقى بالحنّيه بادى) وحين تغالط كبريائك وتعانده وأنت تدير وجهك عن فكرته، يبتدرك بالجهة الأخرى (قلبى شمعة الريّح طفاها، شفت ليك شمعة بتعادى) فتُسْقِط المجرّات حيرتها في يديك وتدندن معه (لو نفكّر بس نلومو، نلقي ما سمحة العداوة) وهل بعد غناء “عبدالعظيم” مانفيستو لعاشقٍ مقلوبٍ على أمره ومغلوباً عليه ؟
جاء “عبدالعظيم عبدالله” حقل المواهب إلى “كسلا” لاعباً في فريق “الميرغني” يشتهر بخفة حركته، وحرفنته، يأخذ جمهور المساطب معه حيث يميل برجليه وهو يداعب الكرة، ثم يخرج عن مشاوير العصاري تلك إلى الأوتار يداعبها بيديه وريشة عوده الصادح، يلوِّن الأمسيات بونس الغناء الجميل، تتقافز أمامه “كسلا” المدينة، ويراشقه “القاش” النهر الحبيب برذاذ الأحلام، وتمرّ على خاطره حسان “كسلا” الفاتنات، تجرح العيون حيِّزاً من جَلده، وتطعن الرموش في ثباته، وتخذله الأرجل قبالة الابتسامات المفرودة وروداً على جانبي ألحانه، تذهب به إلي خدورها المستحيلة، فتلمع نجمةٌ في سمائه، ويشهق وترٌ في عوده، وينقطع حبلٌ في سقف وجيبه فتتدفق الدموع لحناً، والألحان دمعاً، وتبدو الأرض مسرى للفرح الحزين، ومهبطاً لِوَحي الشجن الأصيل، العليل، متلاحق الخفقان (أرض الحبايب يا رمز المحنة، في واديك ولدنا ضقنا حنان أهلنا، سكانك اطايب عامرين بالأماني، ألحانك تملك نشوة وأغاني، يسعد في حبور راح ريدم حواني، لو ما فيك و لدتا كان الهم طواني في كسلا.. كسلا.. كسلا روحي، برضك لي حبيبة، خيراتك و فيرة دوام ارضك خصيبة، القاش مناظر و جبالك عجيبة، لو مافيها روحي كيفن اقدر اسيبا، ترقد في الجبال التاكا الابية، توتيل والحلنقة ديم الميرغنية،السوريبة روض رضوان هدية، القوازة زهرة تتفتح ندية، أرض الحبايب يا رمز المحنة، في واديك ولدنا ضقنا حنان أهلنا).
كان “عبدالعظيم حركة” خفيف الروح، لا تكاد دعابته تنزلق عن ابتسامته الدائمة، تسكن بين أصابعه مفردات الهوى وفرادة الغناء البديع، وتحلّق به ومعه الأماني العذبة، وتتراقص حياله الشجون والشجى، وهو يقود خيول مسيرته الفنية الجامحة حيناً، والراضخة لوخز الحبيب حيناً، والعارفة بدواء المواجد حيناً، والغارقة في أدواء العشق وجراحه، تغنّى لعددٍ من الشعراء، الذين كانوا وما زالوا نجوماً سامقة في سمواتنا، من أمثال “أحمد حميد”، “عبد الوهاب هلاوي”، “عبد الله معاطي”، “حسن الزبير”، “اسحق الحلنقي”، “مختار دفع الله”، وجميلون غيرهم، ولحَّن له “أحمد حميد”، “بشير عباس”، “عبد الرحمن عمر”، وكان من بين هذه النجوم السامقة كلها، أوجد لنفسه من بين حقول مواهبه الشاسعة، شتلة للألحان الدافئة، فقام بتلحين أغلب أغنياته، ولوّن بها وجدان السواقي والأناسيُّ العشاق حينها، مثل “أرض الحبايب”، “يا قلبي توب”، “قلبي ما بيعرف يعادي”، “القليب الراسمو حنة”، “زهرة الياسمين”، “عشان خاطرنا ترجع”، “أنا غنيت ليك أغاني”، “إنتو يا ناس كسلا”، “مالو الزمن”، وطالت شتلته تلك، لبلابةً عرّشت على قلوب الصبيان والصبايا، حتى لكأن شعورهم من خضرتها، وكأن عيونهم من توهجها ولمعانها، وكأن صدورهم متسارعة النبض بعض شقوتها اللذيذة، وكأن أرجلهم سواقٍ آخريات تأخذ عن” القاش” رقّة مياهه، وتسقي بها الدروب في مشاوير المدينة الرشيقة، فتلبس شبابها المستديم ثوباً وصدارة، وطرحةً من حياءٍ لطيف، وعشقٍ بادِ التمرد، يقف بين الركوة الدافئة والمحراب نافذ الشعور، يضع يديه فوق عينيه، ويطالع فضاء الماضي وحواضره المخضرة ويغني (أنا غنيت ليك أغاني، ﻳﺎﺣﺒﻴﺒﻲ ﺃﺳﻤﻰ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ، ﻭﻳﻦ ﻧﺘﻼﻗﻰ ﺗﺎﻧﻲ، ﺇﻧﺖ ﺍﻟﻠﻴﻚ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺀ ﻏﻨّﻮﺍ، ﻭﺍﻧﺖ ﺍﻟﺒﻴﻚ ﺍﻟﻌﺸﻘﻮﺍ ﺟﻨّﻮﺍ، ﻗﻠﺒﻲ ﺟﺮﻳﺢ ﻭﺟﺮﻭﺣﻮ ﺃﻧّﻮ، ﻟﻮﺗﻌﺮﻑ ﺍﻟﺠﺮﺣّﻨﻮ، ﻓﻲ ﻋﻴﻮﻧﻚ ﺍﻟﺴﺮ ﻓﻲ ﺃﻧﻮ، ﺑﻌﺪﺕ ﻟﻴﻪ ﻳﺎﺣﺒﻴﺐ ﺩﻳﺎﺭﻙ، ﻳﺎﻟﺒﺪﺭ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﻛﻤﺎﻟﻚ، ﺍﻟﺤﻮﺭ ﺍﻟﻌﻴﻦ ﻳﺘﻤﻨّﻮﺍ ﺣﺎﻟﻚ، ﻣﻨﺎﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻮﻡ ﺃﺷﻮﻑ ﺧﻴﺎﻟﻚ، ﺃﺷﻮﻓﻚ ﻣﻨﻌﻢ ﻓﻲ ﺩﻻﻟﻚ ﻳﺎﻣﻨﺎﻱ ﻭﺭﻳﺪﻱ ﻭﺣﻨﺎﻧﻲ، وين نتلاقى تاني).
مضى إلى “مكة” زائراً، وملبياً أشواقه الروحية الدفيئة، بعد أن غنىّ لجمهور “بورتسودان” آخر وصلاته الغنائية، يلبس الإحرام ويطوف بالبيت العتيق، يودعه أسراره ويأخذ من خزانته الواسعة أسرار “الله” الكبيرة، يطالع “الركن اليماني” مبتدئاً بحمّى الوصل الإلاهي، ويرمق “الحجر الأسود” بعينين دامعتين، يكاد يصله بيديه قبل بقية جوارحه المشرئبة، يشرب ويغسل وجهه وقلبه بماء “زمزم”، ويبتسم وهو يحدث صاحبه (لو تبرع لي في هذه اللحظة كل من طاف الكعبة معي بريال واحد فقط لأصبحت مليونيراً) ويبيت ليلته تلك في زحمة الأشواق والإشراق والأسرار المتهاطلة، فيذهب في نومته الهانئة، إلى ريالات “الله” في جنانه، وهو يغطُّ في وسامته الناصعة، ونومته الأبدية، مزهواً بحضرة “الله” الباهرة، ومستلقياً على عنايته الكاملة، ترسم ابتسامته حظّه من الكون، يطالع “كسلا” بزهو المحبين وانكسارهم، ويراها تمسك بقلبها وتغنيه (زاد الشوق علينا، ومتين يا غالي ترجع؟) .