
رهاب الجرذان البريء (1)
أ. د. عبد الله التوم
في يوم ١٢/٨/٢٠١١ وصف العقيد القذافي معارضيه الثوار بالجرذان وتوعد بالقضاء عليهم. تفهم الجميع من معارض ومساند ما رمى إليه ولكن قليل منا توقف في التورية التي تأسس عليها التعبير. فاسم الجرذان قد ارتبط حديثاً بالقذارة والنتن وتفشي المرض والطاعون في المجتمع. السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تدنت سمعة الجرذان في العالم الحديث وأدت الى ما قد نسميه رهاب الجرذان، أي الخوف الذي يفتقر إلى العقلانية. ففي معظم الدول الغربية، وتبعتها الأقطار المتغربة ايضاً، فإن اكتشاف جرذ صغير في مطعم أو بقالة كفيلة بإغلاقهما من قبل السلطات الصحية. نقول هذا بالرغم من أن الجرذان ما زالت تُصطاد وتُربى وتؤكل بشراهة في دول عدة. لندع التفكير في شرائح لحم الجرذان، والذي يدعو بعضنا بالتقيؤ جانباً، وندلف في مصدر رهاب الجرذان.
في القرن الرابع عشر، ضرب الطاعون أوروبا فيما عرف لاحقاً بالموت الأسود أو طاعون لندن الأعظم. قضى الطاعون على ما بين ٧٥ إلى ٢٠٠ مليوناً من البشر. ألفت نظر القارئ الي هامش الخطأ في القدير (٧٥-٢٠٠) والذي يفضح الحالة المزرية لعلماء وأطباء الحقبة. وأصبحت الجرذان هي العدوة الأولى للمجتمع حينما توصل العلماء الى أن الجرذان هي التي أتت بالطاعون والذي نقلته عبر براغيثها. لم تعقب الطاعون خطة فعالة لأخلاء الجرذان من المدن الأوروبية ولا حتى عواصمها مثل لندن وباريس وبروكسل، ولكنه عمم كراهية الجرذان بين العامة في أوروبا.
وفي عام ١٦٦٥، ظهر طاعون الدبلي والذي سمي أيضاً بطاعون الموت في أوروبا وآسيا. لا نعرف تعداد موتي الطاعون الأسود ولكنه قدر بعشرات الملايين وقد تعطينا إحصائيات مدينة لندن فكرة عن قوته. فقدت لندن ١٥٪ من سكانها جراء الطاعون، أي حوالي ال١٠٠،٠٠٠ نسمة. المعروف أن الامبراطور، الملك شارلس الثاني هرب من لندن الى مدينة أكسفورد ومعه الكثيرون من الطبقة العليا وتركوا فقراءهم ليموتوا من جراء المرض. وكما حدث في الطاعون الأسود، علل علماء القرن السابع عشر أن الجرذان هي المسؤولة عن طاعون الدبلي.
وظل رهاب الجرذان ماثلاً، ليس في الغرب فقط، بل في كل أنحاء العالم وتواترت جرائم الجرذان المزعومة. ففي عام ٢٠٠٩، روع سكان نيو أورليانس في الولايات المتحدة بقصة طفل مات نتيجة جرذ حاول التهامه. وظهرت أيضاً قصة مماثلة في جنوب أفريقيا ولم تصمد أية من الروايتين أمام التقصي. ثم ذاع خبر أخر في مدينة نيو يورك عبر قنوات التواصل الاجتماعي وانتشر مثل الهشيم في المنطقة. يشير الخبر الى جرذ يقتات في جسم مواطن مدمن للمخدرات وهو يغط في نوم عميق. ولم تمض ايام حتى اصبحت القصة في عداد ما يسمي بالأخبار المزيفة. ولم يسلم السودان الحديث من هذه الأحاجي الفارغة، فقد سمعنا أن أحد السياسيين المعتقلين في سجن كوبر قد تعرض لقضمة جرذ عندما كان نائماً. لا ننكر أن الجرذ، كما الحال عند القوارض الأخرى، قد يلجأ للعض كوسيلة للدفاع، ولكن ليس لأكل الإنسان الحي.
في عام ١٨٩٤ توصل العلماء عقب انتشار طاعون مماثل في هونك كونك الي الباكتيريا المسببة للمرض والتي سميت بيرسينيا. بيد أن براءة الجرذان لم تتم إلا في عام ٢٠١٨ حين توصل باحثون من جامعتي أوسلو وفيرارا في النرويج أن براغيث الإنسان وليس الجرذان هي الناقلة للمرض. بمعنى آخر، أن الطاعون جاء نتاجاً لتدني صحة البيئة والتي أدت بدورها الي انتشار البراغيث البشرية الناقلة للمرض.
يعلمنا تاريخ الجرذان أن اتهامهم بجلب الطاعون وأكل لحم الأنسان لا يمت الى الواقع بصلة. ربما تكون قصة جاك بلاك الإنجليزي هي الأشهر في هذا المنوال. أشتهر بلاك بأنه صائد الجرذان الملكي للملكة فيكتريا التي تولت التاج البريطاني من ١٨٣٧ الى ١٩٠١. نعم لقد كانت مهمته الأولى هي إخلاء قصور الملكة من الجرذان ولكنه وقع في حب فريسته. قام بلاك بتربية الجرذان ومحاولة تأليفهم بل وأكل لحومهم. أستغل بلاك الجرذان في التجارة وأصبح ضمن أثرياء لندن. والغريب في الأمر أن بلاك حث نساء الطبقة العليا بحب الجرذان وكان يبيع لهن منتجاته في أقفاص تزين بيوت الأثرياء مثل طيور الببغاء وطيور الجنة. نحن نتحدث هنا عن مترفي نساء لندم وليس الطبقة الدنيا والتي لا تستطيع دفع أجر الصائد الملكي بلاك.
وللجرذان أيضاً مصدر آخر للثروة اغتنى منها بلاك وذلك باستغلالها فيما سمي برياضة الدم. وتعتمد هذه الرياضة على الرهان على الكلاب المدربة لصيد الجرذان. ونشأت ميادين مخصصة لهذه الرياضة وكان جاك يمدها بالجرذان والتي تتسابق الكلاب في قتلها. يقول جاك أنه تعرض لعضات الجرذان في كل أجزاء جسده بما فيها أعضاء يمنعه الحياء من ذكرها. ما يهمنا هنا أن بلاك عاش مترفاً من مهنته ولم يعاني من أي مرض جراء التعامل مع الجرذان وصيدها بل وأكلها أيضاً.
أما القصة الثانية والتي أود أن أعرضها دفاعاً عن الجرذان فهي رواية روتجر ديير والتي حدثت في مدينة بيتالوما الامريكية عام ٢٠٠٦. تشكك وتظلم بعض أفراد جمعية الرفق بالحيوان من هواية جارهم ديير فهرعت السلطات لتفتيش المنزل ولم يصدقوا ما رأوا فقد كان ديير يحتفظ ب ١٣٠٠ جرذ في شقته الصغيرة. ليس هنالك أي دليل أن ديير كان يسئ معاملة جرذانه بل كان يحبها ويطعمها بما بمعدل ٢٥٠ رطلاً في اليوم وقد وصف جرذانه بأنها لطيفة ومحبوبة ومسلية وكان ينام وهو محاط بهم. اعترف ديير بالرائحة النتنة التي كانت تنبعث من منزله وهي ناتجة عن العدد الكبير الذي احتفظ به في مساحة ضيقة وليس نتيجة سوء ريحة القوارض كما يعتقد البعض. أجبرت المحكمة ديير بالتخلص من الجرذان وتركزت إدانته بسوء معاملة الحيوان في المساحة الصغيرة والتي وفرها مقابل كل جرذ وليس لأية جريمة اخرى.
نستنتج من هذه القصة أن ربط الجرذان بالأمراض لا يخلو من المبالغة المفرطة وان لا صحة في أن الجرذان هي من آكلة لحوم البشر. أما الرائحة النتنة التي فاحت من منزل ييير، فهي نتاج عدم تناسب عدد الجرذان في المساحة التي توفرت لدى ديير. هذه الرائحة الفاسدة قد تنتج من البشر إن تجمعوا في حيز أشبه بمنزل ديير.
قد يعلم بعض القراء أن بعض المجموعات في الهند تقدس الجرذان وتحسن معاملتها. ففي معبد ديشنو الهندية يهرع المحبون فيما يشبه الحج الى المناطق المقدسة ويطعمون الجرذان التي قدرت بحوالي ال ٢٠٠٠٠ في المعبد. هؤلاء العباد، يعتقدون أن هذه الجرذان هي وليدة الجرذ الذي حمل روح الإلاهة كارني ماتا. وكما يتوقع القارئ، ليست هنالك أية تقارير توحي بانتشار الطاعون في المعبد، وليست هنالك شكاوى من هجوم هذا العدد الهائل من الجرذان على زوار المعبد.
تحدثت سابقاً أن صائد الجرذان الملكي لفكتوريا، بلاك، استساغ وأحب لحم الجرذان ولكن ليس له قصب السبق في هذا المجال. لقد ظل بعض مجتمعات الصين تأكل لحم الجرذان بشراهة لآلاف السنين. وعندما ضرب مرض الكورونا بلادهم في السنة الماضية، أصدرت الحكومة أمراً بإغلاق جميع مزارع الحيوانات البرية بما فيها حقول تربية الجرذان. وكعادة النظام الحاكم الصيني، فقد قام بتعويض أصحاب مزارع الجرذان بواقع ١٤.٢١$ للكيلو قرام، والرقم يعكس رفعة لحم الجرذان عند الشعب الصيني. ولم يتفرد الصينيون بتلذذ لحم الجرذان، أذ أنه يستهلك في بلاد عده تشمل كمبوديا، لاوس، ميانمار، فيليبين، إندونيسيا، تايلاند، غانا، فيتنام، كاميرون، نيجيريا، موزامبيق ودول أخري لم أتحقق من شرعية إدراجها في هذه القائمة.
سوف اعود في الحلقة القادمة واتحدث عن طبائع وخصائص الجرذان وفوائدها للإنسان إن استطاع التغلب على رهابها.