غير مصنف

خارج المتاهة

جدل التطبيع واستمرار الثورة

محمد عتيق

إذا كان النظام الساقط نظاماً “نموذجياً” في ممارسة الإرهاب ورعايته، وكان من نتائج ذلك تفجير السفارتين والمدمرة الامريكيات وغيرها، فإن ذلك نسبة لا تذكر قياساً بحجم الدمار الذي أحدثه في السودان شعباً ودولة، لم يترك زرعاً ولا ضرعاً، لم يبق في جسد السودان موضعاً دون تمزيق وتدمير أو بيع ورهن … ناهيك عن نظام حاكم في بلده، حتى في الحروب لم يحدث أن تم تدمير وطن كما فعل النظام الساقط بالسودان الا ما أحدثته قوات الحلفاء بألمانيا في الحرب الكونية عشية تحرير البشرية من نير النازية، وذلك شأن آخر.. وبعد مقاومة مريرة امتزجت بالأرواح العزيزة والأشلاء والفقر المدقع، توج السودانيون محاولاتهم بثورة لا نظير لها، لا نظير لها بمعنى الكلمة، لهيب الحرية والتحرير منها مس الانسان في كل مكان، دعوات السلام فيها طبقتها بالسلمية عنواناً لمرحلة جديدة في تاريخ البشرية، وبشارات العدالة على بيارقها تنسف الجبروت والظلم، ولا زالت أمامها تلال من العوائق لتتنزل حرية سلام وعدالة أريجاً يهدئ الروع ويحرر من الخوف والمسغبة.

    رد الفعل الأمريكي كان إدراج اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وذلك معروف للجميع، غير أن الإدارة الامريكية الراهنة جعلت ذلك الإدراج اجراءاً ضد السودان (الشعب والوطن) لا ضد النظام الساقط وآية ذلك انها، ورغم الاضرار التي وقعت منها على السودان وطناً وشعباً، وبسالة ثورته التي رقص العالم تحت أضوائها، رغم كل ذلك، اشترطت عليه تعويضاً مالياً لأسر ضحايا تلك الممارسات الارهابية!! مئات الملايين من الدولارات استقطعتها الدولة السودانية من أفواه الناس الخاوية أصلاً (باعتراف “الفريق أول” حميدتي) ايفاءاً لذلك الشرط.. عز على الإدارة الامريكية الحالية – وقبل التفاعل مع السودان وثورة شعبه – أن تنسجم مع مبادئها المعلنة في الحرية والمدنية والتحول الديمقراطي؛ لم تكتف بالتعويض المادي بل راحت تصيغ شرطاً إضافياً، همست به ولوحت، ولما وجدت في البرهان ورهطه رخاوةً، عبطاً وتهافتاً، وفي بعض الأفراد والتكوينات السياسية خضوعاً واستعداداً، راحت تضخ الصوت في ذلك الهمس والتلويح معلنةً عن ضرورة التطبيع مع “اسرائيل” شرطاً إضافياً لرفع السودان من القائمة البغيضة!! كيف؟ ولماذا؟ وما العلاقة بين رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وبين التطبيع؟ لا شيء ولا تفسير الا التفسير الواضح: ترامب يحتاج تأييد اللوبي اليهودي ليفوز بالرئاسة في انتخابات ٣ نوفمبر ٢٠٢٠، ونتنياهو في حاجة لإنجاز يصرف به الأنظار عن مخالفاته، وبالطبع لا إنجاز يعلو على انجاز في الاستراتيجية الصهيونية كإنجاز تطبيع مع السودان والتغلغل فيه.. وهنالك أيضاً في السودان من يحتاجون لمن ينقذهم من التحقيقات والمحاكمات على جرائم جنائية كبيرة. فليكن الابتزاز الساذج، ابتزاز السودان الجريح وشعبه العظيم.

   اتضح لاحقاً أن كل ذلك كان قد تم التخطيط له بترويج عبارات وجمل في التبرير للجريمة، ووسائد تسكن إليها الأفئدة هرباً من عذاب الضمائر ونيران البؤس في المواقف، وراحت تهيئ الألسن لتردد في ببغائية خاوية:

* لماذا لا نطبع مع اسرائيل؟ يجب أن تكون لنا علاقات مع كل دول العالم.

* كل العرب، حتى الفلسطينيين مطبعين.

* (مالنا ومال) فلسطين، (نحنا ذاتنا) ما عرب.

* التطبيع لرفع العقوبات هو سبيلنا للحياة الكريمة …الخ.

   فإذا تناولنا الأمر بعيداً عن كوننا عرب أم لا، مسلمين أم لا …الخ، وانطلقنا فقط من كوننا بشر مقبلين على إعادة تأسيس وطنهم على أسس ديمقراطية راسخة ووفقاً لقيم ثورة ديسمبر وشعارها المجيد (حرية سلام وعدالة)، واستحضرنا حقائق أولية بسيطة مثل:

** اسرائيل ليست دولة، فهي تفتقر حالياً للعنصر الأهم وهي الحدود، أما مستقبلاً ف(أرضك يا اسرائيل من النيل إلى الفرات).

** هي مجرد صناعة التقت فيها أهداف الحركة الصهيونية مع مقتضيات الامبريالية الحديثة في خلق كيان:

   – يجمع اليهود في فلسطين كأرض للميعاد المزعوم في الأساطير الصهيونية..

  – تتخلص منهم مجتمعاتهم.

  – تكون خنجراً في جسد المنطقة يحول دون تحررها ووحدتها وازدهار مجتمعاتها.

وقد أحسن المفكر اليهودي البريطاني جون روز في كتابه ” اسرائيل: الدولة الخاطفة” عندما وصفها في العنوان الجانبي، بقوله: “كلب الحراسة الأمريكي في الشرق الأوسط”.

** تعتمد تماماً على الدعم المالي والعسكري الغربي خاصةً الامريكي.

** تقوم على أساس ديني وتسعى أن يتم الاعتراف بها كدولة يهودية وعلى أساس عنصري، فاليهودية عندها دين وعنصر.

** ولضمان استمرارها تعمل على تفتيت دول المنطقة على أسس طائفية وعرقية تبريراً لنفسها من ناحية ولتكون لها السيادة في المنطقة من ناحية أخرى..

** والحديث عن أن السودان ليس من دول الطوق يعني أن دول الطوق مفهوم جغرافي يقتصر على الجوار المباشر، في حين أن دولاً كالعراق والسودان والسعودية واليمن مثلاً هي دول مهمة في برنامجها، تطبيع العلاقات معها يساعدها أولاً في التجارة ونهب مواردها وإمكانياتها وأراضيها الخصبة، وثانياً على النشاط الاستخباري اللصيق في إثارة النعرات الطائفية والعرقية فيها على طريق تفتيتها.

** وفي إطار اغتصابها لأراضي الغير تمارس الاستهتار بالقيم الإنسانية بالقتل اليومي وبالاستمرار في التوسع ببناء المستوطنات في اراضي الغير وطرد الأهالي الأصليين.

باستحضار واستنطاق مثل هذه الحقائق الأولية سنكتشف خطورة الدعوة وما تكتنفها من شبهات..

  هكذا؛ المجلس السيادي، مجلس الوزراء، قوى الحرية والتغيير، الشارع السياسي، كلها تعيش حالة انقسام حادة بعد أن ضربها “تسونامي” التطبيع، بين مؤيد ومعارض.. انقسام فوق حالة التشظي و “الململة” وعدم الرضا التي يعيشها مجتمعنا السياسي..

   حتى “الجبهة الثورية” التي حملت السلاح ضد الظلم والإهمال، الحليف الطبيعي المفترض لقوى التحرر في كل مكان، حتى الجبهة الثورية وقفت ضد طبيعتها مؤيدةً التطبيع مع اسرائيل، رمز الظلم الأكبر في التاريخ.

    هذا الانقسام عموماً يعكس الرعب الذي أصاب قوى الشر من ثورة ديسمبر ٢٠١٨ السودانية، لأن نهضةً اقتصادية عملاقةً تتناسب ومقدرات السودان، تقوم على أساس ديمقراطي راسخ وقيم حقوقية عدلية وثقافية مزدهرة، بيئة مثل هذه تخيف أنظمة دول الجوار، فهي لا تخشى على عروشها من شيء مثل خشيتها من نهوض دولة في الإقليم على أسس ديمقراطية تحررية منحازة للإنسان، لا أحد في هذا العالم سيؤازرنا في إعادة تأسيس وطننا وفق شعار ثورة ديسمبر “حرية سلام وعدالة”

غير أن الثورة ستمضي مهما كانت العوائق أمامها، ومهما طال عليها الأمد واستطالت السنوات.. فقضية التطبيع – وإن أحدثت انقساماً في المجتمع – فهي ليست العقبة الأولى، هي نتاج عقبات في المبتدأ، تتناسل وتتعاقب، منذ وعن، الانحراف الأول، عندما ضرب المكون العسكري بالوثيقة الدستورية عرض الحائط وبدأ في تأسيس نظام رئاسي قابض وكل ما تلى ذلك من تصرفات واجراءات وهيمنة. فهنالك عنصرين في جبهة الشعب، خندق الثورة، عنصرين منتجين متقدين، سلاحاً في يد الثورة هما: لجان المقاومة واللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، فلنعمل على أن تتولى اللجنة الاقتصادية وزارة المالية والاقتصاد الوطني؛ وزيراً ومجلساً استشارياً مدعومةً بلجان المقاومة والرقابة الشعبية، تضع دراساتها ومقترحاتها الجادة موضع التنفيذ على أنقاض سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين وسماسرتها في مجلس الوزراء لفك الضائقة المعاشية عن شعبنا (مواداً وأسعارا ً) كمدخل لاستئناف الثورة في مراقيها العالية. وإذا كانت قيادات القوى العسكرية والأمنية جادة في إصلاح الاقتصاد ومعاش الناس، وبدلاً عن التوسل إلى ذلك عبر اسرائيل وامريكا، فلتسلم أولاً الشركات والمؤسسات الاستثمارية التي تسيطر عليها لوزارة المالية والاقتصاد الوطني وتتفرغ لمهامها الأساسية، فهي تهيمن – كما قال د. حمدوك – على أكثر من ٨٢٪ من النشاط الاقتصادي، تديرها وتحتفظ بها خارج القنوات الرسمية.

ولنترك أمر التطبيع للبرلمان المنتخب وليس المجلس التشريعي الانتقالي الذي سيتم تأسيسه الآن، فهذا أمر ضخم لا يصح إقراره أو رفضه الا باستفتاء شعبي حقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق