ثقافة وفن

ما يشبه الحكاية!

عماد البليك

قبل عامين على الأكثر وصلنا إلى هنا، في البداية كان شقيقي الأكبر قد وصل وجهز البيت في وقت وجيز، كانت ثلاثة أسابيع كافية لبناء غرفتين من الطين وسقفهما وشراء بعض الأغراض والأهم أنه حفر بئرا لتكون دورة مياه، كان قد أنفق كل الذهب الذي جمعته أمي لسنوات طويلة من عمرها وهي تعمل بائعة في سوق المدينة عندنا تبيع الفول السوداني المقلي.. يستطيع الإنسان أن يجمع المال في وقت طويل طبعا لكنه ينفقه في أقل من المتصور. كان الأمر سيكون محزنا لأبي لو أنه كان على قيد الحياة، غير أنه للأسف فقدناه منذ خمس سنوات ذات ليل وهو قادم من المدينة المجاورة لنا، عندما هجم رجال ملثمون على السيارة اللوري التي كانت تقله ومجموعة من الرجال وقتلوهم جميعا، وتم عرض صورهم في التلفزيون بالطريقة نفسها التي يتم فيها تبادل الاتهامات وضاع دم أبي هدرا.

عشنا أياما كالحة وأحزان مستمرة إلى أن كان قرار أخي الشجاع بأن نهرب من هنا، فالحياة لم تعد قاسية فحسب، بل أن المكان يفتقد لأبسط شروط الإحساس بالأمن، والرزق تعثر فأمي لم تعد تكسب كما أن المحتالين كثروا جدا، فكل يوم وفي الصباح الباكر وقبل أن تبيع أي شيء يقف أمامها رجل بدفتر يسمي نفسه تابعا لجهة معينة في الحكومة، يطلب ضريبة معينة أو زكاة أو رسوم تجارية، تتعدد المسميات والخلاصة واحدة أن الاستمرار كان غير ممكن أبدا.

دخل أخي عامر ذات ليل وكان سكرانا، وأقسم أن الله قد خلقه لكي يكون إنسانا وليس حيوانا وأن صديقه بكري حثه على أن يرفع اسم والده وألا يستمر في هذه المهزلة فلديه عائلة يجب أن يهتم بها. كان عامر ذكيا وكنت اعرف أنه يفعل أمور كثيرة ليس لقناعة أو محبة، فقد كان بتبسيط الأمور يشعر بالقرف والتيه جراء الأوضاع التي نعيشها. وأخبرنا بالخطة التي حاكاها هو وبكري، الاتجاه إلى الخرطوم ليس ثمة مفر آخر. ولم تمض سوى شهور قليلة إلا وكنا في البيت الجديد.

فرحنا به، لم يكن مكتملا لكن أغلب بيوت الحي على هذه الشاكلة، مبنية من الطين معظمها يفتقد للإنارة ليلا وقد تعاون السكان في شراء مولدات الكهرباء، المياه تأتينا عن طريق عربات الكارو التي تجرها الحمير تباع بأسعار مرتفعة ولم يكن من مفر سوى الشراء وأن ندبر أحوالنا.

كان عامر يخرج في الصباح الباكر إلى الخرطوم ولا يعود إلا والكل قد نام تقريبا. ماذا كان يعمل لم يكن عندنا علم أنا وأمي، ولم يكن لنا أن نسأله لأنه لا وقت عنده في الأساس ونادرا ما نراه، فالمهم بالنسبة لنا أن يترك لنا المال تحت وسادة أمي قبل أن يكون قد خرج مبكرا.

ومضى زمن غير محسوب، قبل أن يأتي ذات يوم قبل الليل، ليخبرني أنا وأمي أنه يريدنا لأمر هام، لم يكن لدينا من تصور مسبق عن ذلك الموضوع الذي يجعله يبكر في الحضور، لابد أنها مسألة مهمة فعامر ساعة ينشغل لا شيء يعيده للفراغ لقد ودع تلك الأيام البائسة حتى لو أن حاله لا يقول أكثر من كونه أصبح له قميص أكثر تنسيقا من ذلك القديم الذي أدمن عليه في البلدة البعيدة. وفي مقابله على السرير الحديدي جلسنا ننتظر، ولم يتكلم كثيرا:

“بكري قال إنه عاوز يتزوجك على سنة الله ورسوله”

بكري.. لم أكن أتوقع. كما أن بكري ليس له من عمل ولا قبلة يذهب إليها، فهو كما يقال في العادة مقطوع من شجرة، فهو حتى لو كان صديق عامر أخي، فهو بلا أب ولا أم. لا أحد يعرف تاريخه سوى أنه ولد في سنوات المجاعة أواخر عهد النميري. ماتت أمه وتركته يرضع من الكلاب والقطط البرية وأبوه لا خبر عنه في الأساس، ولم تتمالك أمي نفسها فصرخت في عامر:

“تزوجها لولد الحرام هذا الذي لا أصل له..”

كان عامر متماسكا لم يغضب ولم يسرع في التبرير.. ترك أمي تقول ما عندها وهي لم تقدم كلاما مرتبا أو مفيدا فقد كانت تصرخ وتولول إن هذا أخر ما كانت تتوقعه أن يأتي اليوم الذي تذهب فيه ابنتها لرجل لا يعرف من يكون أبوه.  أما أنا فقد عشت صدمة مفاجئة ولم أدر ما أقول بالضبط وتعطل مخي عن العمل، وفي الحال فكرت في جدي.. جارنا لابد أن عنده حلا.. صحيح أنني لم أدخله في شأننا ذات يوم ولم ندخل في شأنه أبعد من معاونته في النهار عند غياب حفيدته، إلا أنه ربما جاء الوقت المناسب لكي أطلب منه أن يفيدني بحكمته في الحياة، خاصة أن مبررات عامر بدأت منطقية فبعد أن هدأت أمي قال لي على جنب:

“يا أختي أنظري بعين الواقع.. الزمن يتغير ونحن في مكاننا.. لماذا جئنا من البلد إلى هنا.. ولماذا هذه القطيعة التي بيننا.. قول لي متى جلسنا لأخر مرة نحكي لبعضنا شيئا كما كنا نفعل في طفولتنا، السبب هو المال لا شيء غيره لا تقولي لي أي تبرير آخر.. المهم أن بكري رجل قادر على أن يعيشك فهو الآن له مركز مرموق في الحكومة”

لم تكن عندي معلومات عنه منذ أن جاء أخر مرة مع عامر بعد أن رحلنا للخرطوم بهذا الحي الطرفي، كان يرتدي بانطلون أسود وقميص أفريقي مورد، عليه كثير من الألوان وكان يدخن سيجارة مستوردة لا أعرف ماذا تكون بالضبط. وجلس يثرثر مع أمي، فهو على عكس عامر يحب الكلام الكثير. وكانت أمي ترتاح له فما الذي غيرها اليوم، قطعا لم تكن تتوقع أن تصل الأمور لهذا الطلب، أن نصبح أهل.

والآن علي أن أفكر بروية وأن أفهم الحكاية من شقيقي فهو الآخر يريد أن يبحث عن مستقبله وعلي ألا أعطله عن ذلك، إذا كنت عاجزة عن ابتكار معنى لحياتي فالأولى ألا أقف ضده، لقد أشار بذلك لأمي وليس أمامي؛ وهي أخبرتني، بأن عليّ ألا أقف أمام حياته فإذا رفضت فسوف يظل ينفق علي المال وقد يتوقف ساعة يتزوج لأن تلك المرأة الجديدة لن تسمح له بالتبذير.

بدأت أمي تقف على الجانب الآخر، هي الآن من أشد المدافعين عن مشروع زواجي ببكري، خاصة بعد أن عرفت أنه يملك الوظيفة المناسبة والمال الكافي حتى لو أنني لم آخذ علم بها، المهم هي وعامر يعرفان والقرار بيدهما الآن، وأنا ماذا سيكون قراري، وأين مشاعري، هل ذهبت واندفنت وراء هذا الزمن العجيب واملاءته فما أنا متأكدة منه تماما أنني لا أحمل أي شيء محدد اتجاه بكري لا حبا ولا كراهية. وحتما أعرف جواب أمي لو خضت في مثل هذه الأمور، فالرد الجاهز.. منذ متى كانوا يتزوجون باسم الحب، أنا وأبوك تزوجنا هكذا على بركة الله، وستعيد لي الحكاية المحفوظة كيف أن أبيها جاء ذات ليل ومعه زوجها الذي لم تره قبل ذلك اليوم، والأهم أن الحياة استمرت وكانت هناك ثمرة هي أنت يا بنت وهذا الولد، فالقاعدة هي الإنجاب، والقدرة على الأكل والشرب وإعداد وجبة الطعام وتنظيف البيت وقبل ذلك أن تعرف المرأة كيف تطيع هذا الرجل.

لا مفر إذن.. وعامر أمهلني يومين فقط، لأن بكري في الطرف الآخر مستعجل يريد أن يقرر بسرعة لقد استلم مبلغا كبيرا ويخشى تبديده قبل أن يكون قد ظفر ببنت الحلال:

“لو وافقت يا بنت.. سوف يأتي عصر الغد معي.. وربما نحضر المأذون”

ثم تكمل أمي جادة في حين كان عامر يغادر إلى عمله المجهول لنا قبل شروق الشمس، كانت حازمة ونهائية القرار، أفهمها جيدا ساعة تتطوع لمثل هذه المسائل، تصيح لبكري:

“عامر خليه يجيء بكره معاك”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق