ثقافة وفن

دوائر الوعي واللاوعي … تحت دائرة النقد 5/5

إبراهيم سليمان

رواية “دوائر الوعي واللاعي” للدكتور أحمد عامر جابر، رواية واقعية محبوكة بحنكة، مكتوبة بلغة رفيعة ومفردة دقيقة، تحاكي أحداث الجزيرة أبا المأساوية في مارس 1970م وما ترتبت عليها من تحولات سياسية غيّرت الخارطة السياسية للبلاد، هذا السرد الروائي المتقن يعكس أيضا علاقة طائفة الأنصار بأئمتهم وأسيادهم آل المهدي (حسب التوصيف المستخدم). ويرصد السرد الفني الكثير من أدبيات العقيدة الأنصارية، وتراتوبية التواصل بين معتنقيها، وتعكس المتاهات الفكرية والعقائدية لجيل ما بعد “الضربة” لأبناء الأنصار.

دائرة الشكوك والإستفهامات:

تشكك الرواية على لسان شخوصها في عدة حقائق وترتاب من عدة مسلمات لدى أنصار الأمام المهدي، منها:

ـــ يشكك جد الراوي الدريّب في مهدية المهدي، وهو في معتقده ليس أكثر من كونه “زولاً صالح من ناس الله وفارساً فحل”.

ـــ التشكيك في نزول “سيف النصر” من اللدن النبوي (صلى الله  عليه وسلم).

ـــ التشكيك في إهداء الإمام عبد الرحمن سيف جده “سيف النصر” للملك جورج الخامس.

ـــ تشكك الرواية في “شرف الرأس واللسان ال ما بيصل البطن والكرعين” أي التشكيك في شرف آل المهدي الذين لا يتشرفون بأصولهم من جهة والدة السيد عبد الرحمن المهدي.

ـــ التشكيك في تّديّن الإمام عبد الرحمن

“لذلك كان يرى برعي أن يرتدي نجل المهدي طربوشاً كباشوات مصر لكن ليس مكاوية كعلماء دين!”

ـــ التشكيك في مقتل الإمام الهادي، تشير الرواية، إلى أنّ مقولة “الإمام الغائب” أطلقها السيد الصادق المهدي والشريف الهندي وبعض أبناء الإمام والإسلامين، لأغراض سياسية، وكذلكالإعترافبإستشهاد الإمام ونقل رفاته إلى ام درمان.

ـــ نشيد الأنصار يشكك في أنصاريتهم، ويصفون أنفسهم بأنهم تُبع للإمام.

“نحن جند الإمام، تابعين الإمام، لي إصلاح الوطن، ولي النفوس العظام”

ـــ تكّذب الرواية المعروضات التي عرضتها سلطات مايو على أنها مضبوطات في غرفة نوم الإمام الهادي بقصره بالجزيرة أبا بعد إجتياحها.

ـــ تشكك الرواية في نوايا آل المهدي وموقفهم السالب من التعليم النظامي لأبناء الأنصار.

ـــ تطرح الرواية شُبهة مكر إستقطاعي من آل المهدي حيثياتها تزوير بيانات عمال الدائرة بدافع تعقيد تعّرف ذويهم عليهم فيما بعد.

دائرة الإستفهامات:

شأنها وشأن أي عمل روائي متقن، تطرح رواية (دوائر الوعي واللاوعي) عدة تساؤل، ملقاة على قارعة الأسطر، وما خلفها، وعلى القارئ أن يلتقطها ويبحث لها عن أجوبة. من هذه التساؤلات:

ـــ يطرح السرد الروائي إستفهامات حول أجور ورواتب عمال دائرة المهدي الإقتصادية، التي يقال أنها دفعت للإنجليز فداءً لإستقلال السودان؟

ـــ يطرح السرد الروائي إستفهامات حول الأصول العقارية لآل المهدي بلندن؟

ـــ يطرح السرد الروائي تساؤل حول متى وكيف إكتسب الإخوان المسلمون خبرات قتالية أهلتهم لتولى التخطيط والقيادة العسكرية خلال مواجهة الأنصار مع النميري في مارس 1970م؟

الإجابة على هذا التساؤل يعود فقط إلى الشهيد محمد صالح عمر، عضو جماعة الإخوان المسلمون والذي التحق بالمقاومة الفلسطينية الجناح العسكري لحركة فتح. رجع الي السودان في عام 1969 بعد وصول جعفر نميري الي السلطة بمساندة من الشيوعيون في 25 مايو. انضم لمعسكر أنصار الامام المهدي في الجزيرة أبا بالنيل الأبيض. استشهد في مارس 1970م أثناء المعركة بين الأنصار وجيش الحكومة بمدينة ربك علي النيل الأبيض.

ـــ يطرح السرد الروائي تساؤل حول المسؤول من مقتل الإمام الهادي، خلال أربعة أيام فقط من بدء المواجهات (صلى بأنصاره صلاة الجمعة يوم 27 مارس في جامع الكون وقتل يوم الثلاثاء 31 مارس)، هل هم الإخوان المسلمون الموكل إليهم القيادة والتخطيط، أم الأنصار الموكل إليهم توفير المقاتلين؟

ـــ تطرح الرواية تساؤل حول عدم إنفجار معظم القذائف الملقاة على الجزيرة أبا في مارس 1970؟ أهى بركة المكان، أم أنّ الضرب كان بمتفجرات رخيصة الثمن، معطوبة التصنيع؟

ـــ يطرح السرد محاولة الشيوعيين تجيير فكرة دائرة المهدي الإقتصادية لصالح الطرح الإشتراكي الوجه الإقتصادي للشيوعية، كمدخل لإستهداف أبناء الجزيرة أبا بعد الضربة.

ـــ تطرح الرواية تساؤل حول لماذا حوّل الإمام الهادي والمحجوب زيارة الملك فيصل للسودان، إلى شأن  وتكّسب حزبي ضيّق؟

ـــ تطرح الرواية تساؤلات شتى حول إستغراب وأسى أبطال الرواية من وعي نجوى عبد الصادق السياسي والإنساني؟

خارج كواليس مسرح الأحداث:

الفصل الأخير من الرواية خارج الحيز الجغرافي، حيث قفزت المشاهد من أحياء أم درمان العريقة إلى ركن المتحدثين في حديقة هايدبارك، وشوارع وسط لندن، و بعد حيز زمني قارب الثلاث عقود من وقوع أحداث المشاهد الرئيسية، في تقديرنا أنّ مضمون هذه الخاتمة، تبدو و كأنها عروض خارج الكواليس لأبطال الرواية، بعزلٍ عن “الكومباس” و كان من الأفضل أن تكون نواه لعمل روائي منفصل مكّمل للدوائر، سيما وأنّ المشهد يبدو مختلفا رغم محاولة تقريبها، حيث يظهر في الخلفية أشخاص عابرون بملامح لا تتسق مع المشاهد السابقة.

كل من يقرأ الرواية، سيتعاطف مع الإمام الهادي في مواجهة عدوانية النميري، وإستخدامه للعنف غير المبرر في إستهداف المدنيين العزل في الجزيرة أبا، وقد لاحقهم خارج الجزيرة عدواناً وبغيا، ويتضح أنّ المواجهة بين الإثنين عقائدية أكثر من كونها سياسي.

عن هذه الرواية الفريدة المحتوى، المضغوطة السبك، يكمن كتابة سفر موازي لحجمها نقداً وتشريحاً، وهى ذات مشاهد وفصول وشخوص درامية، تحّرض على تحويلها إلى عمل سينمائي توثيقي، وتستحق أن تدرّس لطلاب النقد الأدبي بأقسام اللغة العربية، لما تحتويها من جماليات تصويرية وترميزية موظفة بصورة فنيّة ممتعة رغم تراجيديتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق