ثقافة وفن

حوار مع الروائي المغربي الدكتور عبد الإله بن عرفة (4)

أجرى الحوار: د. عبد السلام طويل *

> هو سفر في عوالم مختلفة.

< نعم في عوالم مختلفة، فأنا لا أقصد فقط السفر الحسي، فالسفر الحسي موجود، وإنما السفر المعنوي، في الروح وفي النفس وفي طباق النفس المتعددة، وفي النهاية يصل البطل إلى منتهى هذا السفر، وحينما يصل يعلم أنه لم يصل! يقع في هذه الحيرة لكنها الحيرة الإيجابية، لأنها حيرة المعرفة، لأن هذا الذي يريد أن يصل إليه، هو أصلا متعذر الوصول إليه، وهو هذا المطلق، متعذر، (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا) (الأحزاب: 13). فيرجع إلى الخلق بعد أن كان مراده هو الحق، فهذا المراد الذي تذهب إليه يجب أن تفنى فيه الأنا الداخلية التي عندك حتى تستطيع أن تسير في هذا المسار، ثم، بعد ذلك، ترجع إلى إنسانيتك وإلى كينونتك الإنسانية لتعانق الخلق من جديد وتعلم أن منتهى آدميتك هي أن تكون في هذه الآنية الحادثة، وأن كمال آدميتك هو في هذا الرجوع، في هذا البقاء على أصلك وفي وجودك وبكينونتك وفرادتك، هذا المشروع أيضا له من الوسع والاستيعاب لهذا التاريخ الإسلامي العريض، فاشتغلت أولا على جميع الحواضر..

> أستأذنكم، قبل الحديث عن هذا البعد التاريخي في اشتغالكم على سلسلتكم الروائية، من خلال قراءتي المتواضعة للمفهوم الروائي في تجربتكم الإبداعية؛ مثلما أن هذه التجربة تصدر ويمكن أن تصنف على أنها تجربة عرفانية بالمعنى الذي طرحتموه، ألا يمكن اعتبارها كذلك تجربة فلسفية؟

< طبعا.

> بنفس المستوى.

< صحيح، صحيح.

> وهنا، مع الفارق طبعا، نستحضر تجربة بيرجسون.

< نعم هناك نوع من التداخل.

> التداخل مع الفارق بين الفضاءين، والتجربتين.

< نعم صحيح، صحيح.

أنا سأجيبك، سأجيبك على هذا السؤال، هناك نظرية تعرف بنظرية الرجال الخمسة، هذه النظرية كتبها ابن سبعبن، هو صاحبها، وهي تصدق في مجالات مثل المجال الذي نتحدث عنه، قال إن أصناف الطالبين خمسة: هناك الفقيه، وهناك الأشعري، ويقصد به المتكلم، ولكن مادام الأشعري هو النموذج المتقدم يذكر هنا الأشعري، وهو من باب المجاز المرسل، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. إذا الفقيه، والأشعري، والفيلسوف، والصوفي، والمحقق.

خمسة رجال، هؤلاء بينهم ارتباط، وليس بينهم تنافر؛ بحيث أن مرتبة الفقيه تكملها مرتبة الأشعري تكملها مرتبة الفيلسوف، تكملها مرتبة الصوفي، ثم تكملها مرتبة المحقق، ولهذا كان اسمه عبد الحق بن سبعين، فعلم التحقيق هو لباب الأمر، وهو الجامع لهذه الدوائر كلها..

وبالتالي فهذا يجيب عن سؤالك، بمعنى أن الفلسفة هي دائرة ضمن الدوائر، وهذه الدائرة هي ضمن مبحث هذه الرحلة وهذا السفر نحو العرفان، فما هو الحق؟سؤال غير محرر في هذا الشكل. منتهى ما نستطيع حده به أن نقول: هو طلب الحق، ولكل حق حقيقة، فحقيقة الحق هي التي تظهر في هذه الأبعاد، وأنا كتبت أحد البيانات عن هذا التمييز، وإن شاء الله ستطلعون عليه في رواية إدريس، بهذا التقسيم وهذا التمييز، هذا الحديث النبوي كيف وظفته في مجال النقد الأدبيالعرفاني، بشكل ستراه، إن شاء الله، وهو جميل وعميق جدا، حقيقة أن الحق يحتاج إلى دليل.

> إلى برهان.

< برهان نعم، والحقيقة تحتاج ليس إلى دليل بل إلى آية، إلى علامة.

> إلى إثبات.

< إلى شهادة، فما حقيقة إيمانك، يسأله عن الآية ولا يسأله عن الدليل، لا يسأله عن الدليل لأننا لسنا في مجال التدليل على الحق، الحق لا يحتاج إلى دليل، هو ظاهر وظهوره يعم كل هذا الكون، فبالتالي نحن نحتاج إلى شهادة بحضورنا في هذا المشهد، فنخبر بذلك المشهد، وهنا تنتفي هذه الأبعاد والكينونات الزمنية والمكانية، فيتوحد الإنسان في هذا البعد الزمني الذي أسميته بالآن الدائم؛ فأنا حينما أكتب عن الجنيد لا أكتب عنه كقرن ثالث مضى وانقضى، كما يكتب المؤرخ. لأن المؤرخ يقول أنه لم يكن حاضرا في تلك الأحداث فلكي يتكلم بموضوعية، ولكي يسميه زملاؤه بأنه مؤرخ يجب أن يتحدث عنها بهذه المسافة، وهو أن هذه الأحداث ليس شاهدا عليها، هي فقط أحداث مضت، والذي أتصوره أنا مختلف تماما.

الدليل على ذلك: لماذا الشعوب تطالب بتقديم الاعتذار عن جرائم حدثت منذ قرون، لأن الذاكرة مازالت موجودة، لأن هذه الشهادة بالحضور مازالت حاضرة، لو كانت الأحداث مضت وانقضت لما أصبح هناك مبرر لهذه المطالبة بالاعتذار. ولكن العلوم تحتاج إلى مثل هذه الاعتبارات، علم التاريخ يحتاج إلى هذه المسافة حتى يؤسس مقدماته المعرفية، لكن المجال الذي نتحدث عنه الآن هو مجال أوسع وأرحب، وهو يلتقي مع الفلسفة الهايدغرية، فيما تسميه “بالدازاين”، هنا الآن، الأشياء تحدث هنا الآن، ليس هناك ماضي ومستقبل، هنا والآن..

ولكن هذا الآن هي كينونة واسعة، والذي يخلع عليها الزمن هو ذات الشاهد، هو الإنسان الشاهد، هو الذي يخلعه، ولهذا حينما نقرأ للجنيد، نحس بأنه قريب منا، لو ابن جارتنا أو ابن حينا، فنتعاطف معه ونتماها معه، يحصل هذا التماهي معه، والإنسان الذي يقرأ هذا العمل يحس بهذا التماهي..

بناء على هذا التصور ستلاحظ كيف أن هذا المشروع مختلف كما ذكرنا، وهو أدب جديد بهذه المعاني التي تحدثنا عنها سواء في المفاهيم التي يطرحها في التداول النقدي، كمفاهيم جديدة؛ الكتابة بالنور، الكتابة بالحال، الكتابة بالسر، الزمن العرفاني، البؤرة العرفانية، الحبكة العرفانية، الإمكان والاحتمال، وأنواع الإمكان والاحتمال، هذا أمر ممكن محتمل، وهذا ممكن غير محتمل، وهذا أمر ممكن جد محتمل، وهذا أمر ممكن شديد الاحتمال، وهكذا..

ضمن السياق السردي تحس بهذه الأشياء، هذه تفتح على عوالم كثيرة، هو يحتاج إلى مجهود كبير، واشتغال كبير، لكن هذه النورانية التي تحدثنا عنها، هي التي تعطي هذه الدقة في هذه التوصيفات، وذلك بفضل بركة القرآن وبفضل هذه الحروف القرآنية النورانية، هي السبب في هذا، أنها تفسح لك القول في هذه الأشياء، فبالتالي هذه الفواتح هي مثل المفاتيح، تفتح القرن، وتفتح ذات الإنسان، تفتح الوجود، لأن الوجود كله بماذا كان؟ كان بحرف، بكلمة الحضرة كن، بكلمة كن، بحرفين، ولهذا أسيادنا يقولون وسره بين الكاف والنون، بمعنى ما هو هذا السر؟ هو حرف الواو، بمعنى حينما تضيف ذالك الواو بين الكاف والنون يصبح كون، أي الوجود، هذا هو السر المختبئ..

ولهذا فالخط العثماني والخط العربي في المساجد والجوامع العثمانية يكتبون الواو بشكل كبير لأنه يدل على الإنسان الكامل، لأن حرف الواو ما هو؟ هو الرقم ستة، والمعارف من أين تأتي؟ من الجهات الستة، من الأمام والخلف واليمين والشمال والفوق والأسفل، بمعنى أن هوية الإنسان الذي يصنعها هو هاته المعارف التي تأتيه من هاته الجهات..

لكن الهوية العرفانية هي أسمى من ذلك، والدليل على ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم، بإدماج هذه الستة وإضافة خمسة إليها، في دعاء يجب أن نتنبه إليه، “اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا وعن شمالي نورا، ومن أمامي نورا ومن خلفي نورا، ومن فوقي نورا ومن تحتي نورا، واجعل لي نورا، واجعلني نورا”؛ إحدى عشر، ستة من الجهات الحسية، وخمسة من داخلية الإنسان المعنوية، وهذه هي هوية الإنسان الكامل، الواحد في مقابل الواحد، إحدى عشر، الواحد الحق، ويقابله العبد الكامل، العبد الكامل سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذه هي الوترية التي يبحث عنها الإنسان، هذا هو المشروع العرفاني.

> هذا المشروع، كما يفصح عن نفسه، مشروع قَصْدي، أي فيه القصد، فهو قاصد وله مقصد.

نعم فيه القصد، تمامًا كما في الشعر، وبهذا سميت القصيدة.

> بالنظر إلى هذه القصدية والوعي بها؛ هل تشكلت لديكم هندسة أولية للمشروع، ثم شرعتم في خوض التجربة بحيث أن العمل يفضي إلى عمل آخر، أم أن الهندسة، إن وجدت، قد انقشعت أو انقدحت في ذهنكم، أول ما انقدحت وهي شبه مكتملة؟

أنا شخصيا أقول لك، أنا بدأت في كتابة هذا المشروع في نهاية القرن الماضي، في سنة 1999م، إثر رؤيا، ولا مجال للدخول في أبعاد وتفاصيل هذه الرؤيا ولكني أشرت إليها في إهداء أول عمل، “ما اتصل الحرف بالحرف والمعنى بالمعنى” ومتى اتصل القاف بالقاف، والنون بالنون، في أول إهداء فيه هذه الإشارة. لم أكن على وعي، حينذاك، بما سيؤول إليه المشروع، لكن في الإهداء كان كل شيء مكتوبا، لأن القاف والنون ما هما؟ أول حرف في كلمة “قرآن” وآخر حرف هو النون، “قرآن”، وتشكيل هاذين الحرفين يعطي حقيقة هذا المشروع وهندسته الكاملة منذ البداية، فالقُنُّ هو الجبل، والقِنِّ هو العبد الخالص في العبودية، فكيف ما شكلت هاذين الحرفين الذين هما خلاصة القرآن، تعطيك الجبل: العلو، لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الحشر: 21)؛ أي على الإنسان، دع عنك الجبل الحجر الأصم، فهذا يفهمه السطحي الظاهري،  أي هذا العبد القِنُّ الخالص في العبودية، في اللغة العربية عندما نقول القِنٌّ، هو الخالص في العبودية، من الجهتين الأب والأم،  ففي هذا الارتباط الأولي منذ هذه اللحظة الفارقة تأسس المشروع، وبعد ذلك بدأ الوعي به، وأعطيك مثالا: القرآن نزل أول مرة على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ليلة واحدة، نزل في ليلة واحدة هي ليلة القدر، ثم نزل منجما في ثلاثة وعشرون سنة، بمعنى أنه جاء إجمالا في ليلة واحدة، وجاء تفصيلا في ثلاثة وعشرون سنة التي هي تاريخ الإسلام وتاريخ البعثة النبوية، قياسا على هذا، ولله المثل الأعلى، في هذه الرؤيا الأولى التي حبل بها هذا المشروع، جاء هذا المشروع، ثم توزع خلال هاته السنوات التي أكتب فيها، جاء مفصلا عبر هذه الفواصل، فربما هذا يجيب على هذا السؤال، ولكنه بسرعة جاء الوعي بالمشروع كمشروع عام.

> بحر نون، بلاد صاد، الحواميم، فواصل الغزالي، الخطيب في روضة طه، ياسين، قلب الخلافة، طوق سر المحبة، الجنيد، خناتة، إدريس… كيف تتمثلون هاته العناوين؟ حينما تتلقون هاته الدوال هل تتلقونها وتتمثلونها تمثلا خاصا؟

< الآن أنت تسأل عن منطقة من الصعب تعقلها، من الصعب تعقلها، لكنها تتخلق في ذات المبدع في عوالم من الصعب الإمساك بها، عادة تكون في ارتباط مع آية أو مشهد برزخي، ثم يأتيك شيء هكذا، كحقيقة لا تقبل الرد.

> نعم، تأخذك.

< نعم، فتحس أنك ستكتب عن هذا الموضوع، أو عن هذا الشخص انطلاقا من هذه الفاتحة.

> وهذا شرط أساسي؟

< وأنا أقول لك كيف أبدأ، بعد هذه اللحظة أذهب إلى تلك الفاتحة النورانية، وأقرأ السورة كاملة، وتبدأ تسكنني تلك السورة، لمدة، وهي تسكنني، وأسكنها، وأتقلب في منازلها، تحصل منازلات، علم المنازلات أول من تكلم فيه هو ميمون المصري، والحاتمي خصص له فصلا كبيرا سماه باب فصل المنازلات، من الفصول الستة من الفتوحات المكية، حينما تتنزل سورة أو آية بين الحق والعبد، تحصل علوم، ويكتسب من خلالها أشياء، في تلك المنازلة.

لأن القرآن ما هو؟ هو تنزيل، يتنزل، ويتنزل كيف؟ كنجوم على قلوب العباد، ولهذا فتلك السورة تكون كما لو أنها نزلت في تلك اللحظة، حديثة عهد بربها، فيحصل العلم بها في هذه الأفياء وفي هذه الأحياز فتتم الكتابة انطلاقا منها، فهذه الرواية هي في الحقيقة ترجمة لتلك المنازلة التي حصلت في التاريخ، فتصبح متاحة، ولهذا أنا قلت لك في البداية: هو إنشاء خطاب حول هذه التجربة، وهنا تَنماز الرواية العرفانية عن الرواية الصوفية، لأن الآخر يقول لك في الرواية الصوفية يقول لك أنا لا أستطيع أن أعبر، العبارة للعامة، ويقول لك الإشارة للخاصة، لكنه ينسى أن الذي يشير هو البعيد، فحينما تقول هناك، فأنت بعيد، لست بعين القرب، والحقيقة أنك حينما تكتب هذه النوع فأنت في حضرة القرب.

> تقتحم، هذا اقتحام؛ (فلا اقتحم العقبة) (البلد: 11).

< نعم هذا اقتحام، أنت في حضرة القرب، ولهذا أنت تستطيع أن تخبر عن هذه التجربة، وتستطيع أن تكتب عنها، والأكثر من ذلك، أنك تنقل تلك الأحوال إلى غيرك، ولهذا أنا تحدثت عن الكتابة بالحال وقلت: إن كتابة بالحال تستدعي قراءة بالحال. قد يقول قائل: أنت كتبتها بالحال والحال لا يدوم زمنين كما عُرّف، هو وارد يرد على القلب ثم ينطفئ، بمعنى أنه لا يستمر مدة طويلة.

>وغير متاح للعامة.

< فكيف يبني القارئ هذا الحال الذي حصل في الزمن (T.1) والزمن ( T.2) الذي هو زمن القراءة. هنا أدخلنا مفهوم جديد الذي هو: “القراءة بالحال”، حينما يزج بنفسه في الأنا الدائم، يتوحد مع ذات إما السارد، أو الكاتب، أو الشخص الذي حصل له الحال، فيعيد بناء الأحوال، فتصبح خريطة الأحوال والطريق الواصل إليها هو الطريق العكسي، لأن هناك تناظر، الأول يحصل له الحال، والثاني يبني كيف حصل هذا الحال، إذن يأتي من النهاية إلى البداية، والأول من البداية إلى النهاية، فهي مفاهيم حتى في النقد الأدبي غير متاحة، مفاهيم جديدة وبكر، هذا مجال بكر، فهذه البيانات التي ترافق هذه الأعمال تحاول أن تقرب هذه الأحوال المتفلتة.

> القابلية تختلف كذلك.

< نعم، ليس كل الناس يستطيعها.

> هذه البنية العرفانية للنص، إذا حصل التفاعل الكيميائي الروحي العرفاني، بين النص الذي هو التجربة الخام، وبين المتلقي، ستؤهله ليجد نفسه منخرطا ومنسكبا في ذلك المسار.

< طبعا، تماما.

> بمعنى أن النص عنده وظيفة، من خلال التأثير في معرفته وسلوكه، بمعنى إذا كانت عنده قابلية وجدانية، ونفسية، وروحية، فبمجرد أن يدخل في عوالم التجربة ستسحبه.

< نعم يحصل له التحول، وهذا هو المؤشر، فالتحول هو المؤشر، حينما يحصل للقارئ تحول، يعلم، حينها، أنه حقيقة كان حاضرا، لأنني تحدثت عن الشهادة بالحضور، ليس فقط أن تحضر، وأن تشهد على حضورك، تقدم شهادة بأنك كنت حاضرا، في ذات الحدث، وفي ذات تلك الواقعة التي حصلت، حاضرا فيها وتقدم شهادة، وهذه الشهادة أنت مسؤول عليها، والمؤشر عليها، هو التحول الذي يحصل للإنسان، إذا استشعر من ذاته أن هناك تحول حصل؛ فيلزم الأمر ويقول هذا المؤشر صحيح وصادق، وهذا هو المطلوب الذي تحدث عنه صاحبنا حينما قال: القراءة بالحال، القراءة بالحال، إذن فهو على حق في تلك القراءة، والنماذج كثيرة، أنا لا أستطيع أن أذكرها من قراء حصلت لهم أشياء عجيبة، سبحان الله، تحولات لدى قراءتهم، أشخاص من الشرق ومن الغرب، وهي طريفة جدا، إن شاء الله في مرة أخرى يمكن أن نقف عليها.

فالذي أريد أن أؤكد عليه، هو أن هذه الأعمال كذلك تشتغل على حواضر، كل الحواضر الإسلامية الكبرى تم الاشتغال عليها، في المشرق والمغرب، كل الدول الكبرى التي مر منها العالم الإسلامي.

> وهذه الحواضر لها علاقة بالذاكرة، فهي فضاء ومادة للذاكرة.

< طبعا، بمعنى هذا الاستيعاب ليس سهلا، هناك اشتغال أونثروبولوجي كبير على الأوضاع الاجتماعية والحضارية والفنية والثقافية والاجتماعية، في العمارة، في الفنون، في الطبخ، في الأكل، في الأوضاع، كلها اشتغال، وهذا اشتغال المؤرخ والمدقق الباحث المتخصص، المعجم، الخريطة التي كانت عليها المدن في ذالك الوقت، وهذا عمل مضني وشاق، وهذا حقيقة يعطي شهادة الحضور لأنه يوثق توثيقا حقيقيا في حيز، هو حيز الرواية خلال قرن من الزمن، ولكن هذا ممكن، ممكن، لأنه إذا كان الحرف يستوعب الوجود فكذلك الرواية يمكن أن تستوعب قرنا باختلاف ما في هذا القرن من أشياء.

> من خلال متابعتي، وجدت بأن تجربتكم الإبداعية، قد لفتت قبولا طيبا، سواء على مستوى المقاربات النقدية أو حتى بعض المقاربات الأكاديمية على شكل أطاريح وغيرها. كيف تقيمون ما كتب عن تجربتكم الروائية؟ خاصة وأن لكم حكما نقديا جريئا في النقد، بدعوى عدم متابعته ومواكبته الأعمال للإبداعية، طبعا هذا أمر ملحوظ؛ ليس هناك مواكبة نقدية للعمل الإبداعي. وفي هذا الإطار سبق أن صرحتم أن “النقد أصبح بطريقة مخجلة عاجزا عن متابعة الإبداعات الكثيفة”، سؤالي ربما ليس المقصود منه أنني سأحملك مسؤولية الإدانة، وإن كان الأمر يتضمن إدانة ظاهرة. بعيدا عن منطق الإدانة كيف تفسرون هذه الظاهرة موضوعيا؟ ظاهرة عجز النقد عن مواكبة العمل الإبداعي؟

< النقد هو النقد القوي (بأسسه بقواعده بأدواته). النقد القوي الذي نحترمه هو إبداع في حد ذاته، ويجب أن يرتفع إلى هذا الحوار مع الأعمال الأدبية الرائدة، حتى يؤسس لمشروعيته، لا أن يكون ذيلا على نظريات مستجلبة، مهما كانت هذه النظريات، لأن هذه النظريات انبنت انطلاقا من أعمال أدبية.

> من تجارب.

< نعم من تجارب، وبالتالي ولّدت هذه النظريات. إذا طرح مشروع جديد نفسه بهذا الشكل، يجب أن تكون هناك نظرية كذلك جديدة تواكب هذا العمل، لا أن يقرأ باختزال.

> قراءة برانية..

< نعم، انطلاقا من نظريات برانية بعيدة، وبأدوات مستخلصة من أعمال مفارقة، مهما كانت أهميتها في ذاتها؛ فالنقاد أنفسهم يقولون أن النقد لم يعد يواكب حركة الإبداع. هناك الآن إنتاج كبير، إنتاج كبير طبعا فيه الكثير من الغث، ولكن ليست هناك مواكبة إطلاقا، حتى لتقويم هذا الغث. فالرواية تعرف الآن انفجارا سديميا والنقد له دور بارز، وحتى يعطي مشروعية لوجوده يجب أن يتابع، على الأقل، توجهات معينة، وأن يقوم، وأن يصحح، وأن يتابع وينتقي، لا أن يبقى منشغلا بالمقتضيات النظرية، ويتغذى على النظرية.

> ويبقى شكلانيا.

نعم، النظرية تغذي النظرية، النقد لا مبرر لوجوده إلا مع الأدب، فإذا انعدم الأدب لم يعد أي مبرر لوجوده، وإلا ألحق بشيء آخر وأصبح فلسفة مفارقة، والفلسفة هي في غنى عن النقد الأدبي، يمكن أن تؤسس لنظرتها الخاصة إلى العمل، وهذا موجود، الفلسفة لديها تصور عن الأدب، بل الفلسفة العميقة هي التي اشتغلت على الفن والإبداع.

> بل إن الجمال مبحث أصيل من مباحث الفلسفة.

< تماما، لكنه المبرر لوجود النقد، ولا يجب أن يغيب عن النقاد، أن الإبداع النقدي هو في ملازمة الإبداع الأدبي، وهذا الحوار بينهما هو الذي يعطينا التراكم الذي نطمح إليه ونريده. الآن أنت تلاحظ كثيرا نكرر ما قيل عن أعمال نجيب محفوظ وعن فلان وعن فلان… أليس هناك جديد يكتب حتى نستأنف دومًاتكرار ما قاله الأساتذة والنقاد السابقون؟ ونفس الكلام حتى في الأبحاث الجامعية التي ينجزها الطلبة، نفس الكلام، وليس هناك أي جديد، بمعنى كلام مكرور مكرر بشكل كبير، مع الاستثناءات المقدرة طبعًا.

فالذي أدعو إليه؛ هو أن يستيقظ النقد من هذه الغفوة وهذه الغفلة، ونحن نحتاج كأدباء وكمبدعين، والقراء يحتاجون والسينما تحتاج… ليس فقط المشتغلين في الأدب، ولكن كذلك حقول ومجالات أخرى تحتاج إلى النقد الأدبي الرصين الذي يدخل في هذا الحوار مع العمل الأدبي الإبداعي.

> هناك نوع من التجارب الإبداعية لها نوع من الخصوصية، يجعلها تخرج عن التجنيس وعن القوالب الجاهزة وعن التنميط، وهو ما يجعلها تحتاج إضافة للعدة النقدية المتعارف عليها، إلى أفق خاص في تمثل العالم، في الإحساس باللغة نفسها.

< نعم تماما.

> من خلال اهتماماتي الأدبية والنقدية المبكرة ومن خلال اطلاعي على المدارس الأدبية والفنية الكلاسيكية تولدت لدي قناعة بأن التجربة الإبداعية الحقيقية تظل عصية على القولبة والتنميط.

< تنتج منهجها.

> فوظيفة النقد أن يرصد البنية الخاصة بها (أي بالتجربة الابداعية)، ليس بالمعنى البنيوي فحسب، بل في ذاتها؛ كيف تتشكل؟ كيف تتخلق؟ إذا استطعت بأدواتك أن تجعلنا نقف على المعالم أو المنطق العام الذي يحكم تشكل هذه التجربة، فهذا معطى أول.

المسألة الثانية؛ تتعلق بالقدرة على التمييز بين مظاهر الإبداع في هذه التجربة، ذلك أن اللغة الإبداعية تختلف عن اللغة العادية بكونها لغة مسبوكة بجمالية خاصة، لغة مبصومة. ووظيفة الناقد أن يُمسك بعناصر التميز والفرادة، وعناصر المفارقة والجمالية… ويرصد البنية العامة للتجربة وروحها..

وبهذا المعنى فإن تجربتكم، على غرار مختلف التجارب الابداعية الحية، لا يمكن مقاربتها مقاربة عميقة إلا انطلاقا من ناقد له هذا الوعي، وبالتالي يبحث عن زخم بنيتها الداخلية كيف تشكلت؟ روافدها؟ بنيتها الرمزية؟… إلى غير ذلك. وعن عناصر التناقض والمفارقة فيها، وعن بنيتها وروحها الثاوية.

< صحيح ولهذا كنت على وعي بهذا الوضع، ومن هنا أتت أهمية تلك البيانات، الاشتغال النقدي الذي أقوم به على هذه التجربة، هو طبعا لترميم هذا الخصاص الذي لاحظته، والذي أرى أنه طبعا، كما تفضلت، وقلت: يحتاج إلى أن يستوعب الإنسان هذه الأبعاد كلها، لأنه ليس سهلا أن تشتغل على الإمام الغزالي، الإحاطة بالإمام الغزالي كغزالي، وبمجمل ما أنتج، وبعصره وبكذا… وتكتب هذا في كتاب يجمع بين المعرفة والمتعة، علما أن هذه الرواية قد كتبت في شهرين.

> يتعلق الأمر بانبثاق إبداعي حقيقي.

< لو كان فقط كلاما مرسلا هكذا يمكن أن نتصور الأمر، ولكن أنت أمام معارف وعلوم وعصر بكامله تكتبه في هذه المدة الوجيزة بلغة جمالية وحبك روائي.

> ما سر ذلك من وجهة نظركم؟

< أنا أُرجع ذلك إلى أمرين اثنين: إلى بركة القرآن، وإلى البركة التي حصلت لأبي حامد نفسه، لأنه على صغر سنه، فهو مات صغيرا، خمسة وخمسون (55) سنة تقريبا، ومع ذلك ترك ما ترك، فهذه البركة التي ظهرت في هذا الرجل العظيم.

> خاصة في ظل شروط إنتاج قاسية.

يبدو أن هذه الظروف القاسية وقد انعكست حتى على من يكتب عليه، فحضرت هذه البركة بالتعدي، فانتقلت هذه البركة. إن هناك شرائط علمية لابد منها، وشرائط نفسية ووجدانية نحتاج إليها، وشهود روحي، هذه كلها ضرورية.

> على أن لا تكون هناك مسبقات.

> تماما يترك الإنسان المسائل والأحكام النقدية المدرسية، كذا وكذا.

> حتى المسبقات المذهبية.

< طبعا حتى المسبقات المذهبية، كما أقول وأنا أُعرِّف المحبة في “طوق سر المحبة”، مرحبا بك أيها المحب من حيث ما أتيت، ومن أين أتيت، فأنت مرحب بك، فيجب أن تأتي بدون هذه المسبقات، وهذه الشروط المسبقة، فأنت مرحب بك من دون ميعاد يمكنك أن تأتي، ونحن نستقبلك ونستضيفك في هذه الأفياء. كذلك الإنسان الذي يدخل إلى هذه الحضرة العرفانية الأدبية الإبداعية، يجب أن يأتي بدون هذه الأفكار المسبقة تشوش عليه، وتمنعه من الفهم ومن الوصول ومن الحضور في العمل، هناك مستويات للفهم لأن هناك مستويات للحضور، فبقدر حضورك في هذا العمل يكون فهمك، وبقدر غيابك عن الحضور يكون عدم الفهم، فهي مرتبطة؛ بمعنى بقدر مستويات الحضور تكون مستويات الفهم، وكلما كانت مستويات الحضور أكبر وأعلى، كلما كانت مستويات الفهم أجلى وأسمى، فهي مرتبطة.

> متلازمة.

< فلهذا أنا سميته أدب الحضور وأدب السفر، هذه من الأسماء التي أسميها كذلك في الرواية العرفانية ولكن أيضا الأدب بصفة عامة، أدب الحضور وأدب السفر.

والآن والحمد لله من خلال هذه البيانات أنا تحدثت عن الشعر، الشعر العرفاني، ودعوت إلى أن ينفتح شعراؤنا عن هذه التجربة العرفانية، وهي التي يمكن أن تنقد الشعر من هذه الأزمة الخانقة التي يعيشها اليوم، وهذا الانسداد الذي نلاحظه، والآن بدأ بعض الإخوان، صدر كتاب للصديق العزيز التهامي الحراق، سماه: “الجمالية العرفانية”، وهو كذلك يساهم، فإذن هناك حركية جديدة في بناء معالم هذه الجمالية العرفانية في مجالات متعددة ومختلفة، في الأدب، في الفلسفة، في العلوم الإنسانية، في التشكيل العرفاني.

أنا ذكرت هذه الأمور، وطبعا لأنني أريد أن أعانق التجربة الإبداعية مع الآخرين، لأنها مطلقة وتفتح آفاق كبيرة، وكما تفضلت وقلت هي تحتاج إلى هذا الشفوف، الشفوف الروحي مهم جدا، لابد منه، وهذه الشرائط العلمية التي لابد منها، لأن الرواية كذلك تحتفل بالمعرفة في أبهى صورها، ولهذا تحقق هذه المتعة وتحقق كذلك هذه الاستفادة، فيستفيد الإنسان ويعلم عن أشياء وأشياء وأشياء.

> أشرتم لعلاقة تجربتكم الإبداعية بـمفهوم “البركة” بكل أبعادها الدينية المتعالية؛ كمصدر مدد واستمداد وربما مصدر إلهام. وأتوقع أن القارئ من خارج المرجعية التي تصدرون عنها سوف يستشكل عليه أمر هذه العلاقة ليتساءل:وماذا عن كبار المبدعين العالميين من خلفيات ثقافية مختلفة بما فيها الدهرية ممن حققوا أعلى درجات الإبداع، بمعزل عن أي مفهوم متعالي كمفهوم البركة، لأنه لا يندرج لسبب بسيط ضمن مفردات مرجعيتهم الثقافية والدينية؟

< جاء في الخبر النبوي عن الخضر “ما قعد على فروة إلا اهتزت تحته خضراء”، دليلا على هذه البركة التي أشرنا إليها. معك حق في أن من لا يصدر عن مثل مرجعيتنا العرفانية يمكن أن ينكردور البركة في الإبداع، لكنه سيستدعي لا محالة شيئًا شبيها بها يسميه الإلهام أو الدفقة الشعورية التي لا تُكَيَّف ولا تُعرَف إلا في قدرتها الهائلة على توليد المعنى والإبداع بشكل لا ينضبط بمسار محدد، وإنما يختلف حسب كل مبدع كما هو حال السوداوية (Spleen) عند بودلير التي هي نوع من تعاسة العيش. كما قد يستدعي أسبابًا حسية مذمومة مثل المخدرات والمنشطات، وقد كان، وهذا مما ينكره العقلاء والفضلاء على هؤلاء المبدعين. فإذن لا مشاحة في الألفاظ ما دام أن مصدر الإلهام قد يكون معبد الأولمب عند اليونان، أو وادي عبقر عند شعراء العرب، أو غابة شيروود بالنسبة لأسطورة وقصة روبن هود؛ أو قل ما شئت من مثل هذه المصادر عند الأدباء والمبدعين المعاصرين. ونحن نصدر عن مرجعياتنا التي ذكرت لكم منها ذلك الخبر النبوي عن بركة أحد رجال الغيب وهو الخضر. كما أن أعظم ليلة في الوجود هي ليلة القدر ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ التي نزل فيها مجملا قرآنُ الفواتح النورانية التي نحن من بركتها وفيضها وجودها. والبركة لغةً هي الزيادة، ولا شك أن الناس تريد الزيادة في الخير، والأدب خير كله، بل هو الخير عينه، فإذا تحدثنا عن بركة الأدب بهذا المعنى فلا يبقى لأحد اعتراض لأننا نطلب الزيادة في الخير والنماء في الأدب والتزكية في الأخلاق. ومن منا لا يريد النماء والزيادة في الخير والأدب والأخلاق؟ ومن جهة ثانية جاء في القول الإلهي ﴿تبارك الله أحسن الخالقين﴾، فربط البركةَ بالخَلْقِ الحَسَن، وما الإبداع الأدبي إلا نوع من الخلق، فكيف لا يطلب فيه البركة والزيادة والتطهير؟ إن الأدب هو خلق وإبداع في الحياة، وزيادة فيها وتمكن في الوجود بها.

إن أعظم زيادة يطلبها هذا الأدب العرفاني هي الزيادة في الوجود، وهل هناك شيء أفضل من الزيادة في أمر هو أصل كل أمر؟ فبقدر تمكن الأديب في الوجود يكون أدبه على أعلى درجة من الأدبية.

> شكرا جزيلا السي عبد الإله استمتعت كثيرا بهذا اللقاء.

< بارك الله فيك أستاذ عبد السلام، وأنا كذلك استمتعت معك في هذا الحوار، وأشكرك كثيرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق