ثقافة وفن

في عيد ميلاد فيروز

بطرس المعري

وعيتُ على صوت فيروز، فذاكرة الطفل الذي كنتُه في بداية السبعينيات ما تزال تردّد مع صوت المذياع حتى الآن أغنيتي “كتبنا وما كتبنا” و”طيري يا طيارة” كأول المحفوظات… ذلك المذياع الذي لم أعد أتذكر كيف كان شكله أو حجمه، أو حتى إن كان ملكنا أم أنه كان ملك إحدى العائلات، ممن كنّا نتقاسم معها الدار في حيّ باب توما الدمشقي. كانت الدار واسعة مؤلفة من طابقين اثنين تتوزع غرفهما حول فسحة في الوسط مفتوحة على السماء، كنت أرى من خلال هذه الفسحة تلك “الطيارة” المشغولة من “ورق وخيطان” تعبث بزرقة السماء تارة وتلعب مع غيومها تارة أخرى.

كما ارتبطت بأيامي تلك أغنية أخرى، لـ المغنية التي لا أتذكر إن كنت أعرف اسمها حينها أم لا، وهي “شايف البحر شو كبير”. كانت كلمات الأغنية ولحنها البسيطان يختلطان في رأسي مع كلمات الأم أو الأب التي يوشوشانها في آذان أولادهما الصغار تحبّباً: “بحبّك قد البحر” أو “قد السما”… (وإذا كنّا لا نحبّ “كبر البحر” و”بعد السما” فلماذا نحب؟)

■ ■ ■

أما الموسيقى التي بقيت أثيرة لديّ من ذلك الزمان، فهي موسيقى “بقطفلك بس”. كان مطلع هذه الأغنية بحضور ساحر للكمنجات يؤلف شارة “مرحباً يا صباح”، البرنامج الصباحي المشهور في إذاعة دمشق والذي كان يتضمن في فقراته بالطبع أغنيات للسيدة فيروز، كتقليد صباحي لا يزال معتمداً حتى أيامنا هذه بكل ما مرّ عليها. ولن نغالي في الأمر إن قلنا إن شارة البرنامج هذا قد بقيت تعني الكثير لجيلين أو أكثر كلوحة من ذاكرة زمنهم الجميل. وكما يذكر بعض من وعى تلك الفترة، أن إبرة أجهزة المذياع تتوّحد حينها في المدينة، حتى إنك إن سرت في حواريها لاستمعت إلى أغنياته من خلال النوافذ المشرعة والدكاكين التي تفتح أبوابها باكراً للزبائن.

وإذا كنّا لا نحبّ “كبر البحر” و “بُعد السما” فلماذا نحب؟

مع الأيام وعبر أشرطة التسجيل التي بدأت تدخل بيوتاتنا، بدأت أكتشف مراهقاً مسرحيات الرحبانيين، “ميس الريم” كانت الأولى التي أحببتها وحفظتها عن ظهر قلب قبل أن أكتشف لاحقاً “المحطة” و”ناطورة المفاتيح” و”حكاية الإسوارة” وغيرها. وكملايينٍ من أهل المشرق، بقي الاستماع إلى أغنيات فيروز تقليداً صباحياً، كما بقي صوتها يرافقني وأنا أعمل في مرسمي، يأتي بالوحي ويحرّض الأفكار كما يمتزج لاحقاً مع الألوان على “الباليت”، فيمرّ بعدها على سطح اللوحة مع الريشة فيضبط إيقاعها.

■ ■ ■

لم تتح لي الظروف أن أرى السيدة فيروز على المسرح ولم أسعَ إلى ذلك. أردت أن تظل هذه السيدة كما يتكلّم عنها أنسي الحاج مثلاً، أو مخلوقاً افتراضياً كالعالم الذي بتنا نعيش فيه، غير موجود إلا في أشرطة التسجيل، التي حرمنا التطوّرُ الرقمي من أُلفتها في مكتباتنا.

كذلك لم يخطر في بالي يوماً أن أرسمها أو أن أستلهم ما غنَّتْ. أُطلقُ أحياناً على لوحة بعدما أنجزها عنوان أغنية من أغانيها أجدها مناسبة، فكانت لوحة “شايف البحر” و”مرجوحة” وأيضاً المفضلة (الأغنية لا اللوحة) “بقطفلك بس”.

لكن خلال هذه السنوات المأساوية الأخيرة، رحت بعفوية أرسم وأخطّ بالحبر الأسود على قصاصات ورق صغيرة كلمات وجملاً تعنيني وتخفّف عني عبء الأحداث، فكانت في رأس القائمة “ردني إلى بلادي” و”سنرجع يوماً”… قصيدتان تحملان كل الوجع والحنين. هذه التخطيطات تطوّرت لتصبح فكرة أو نواة لمشروع جديد، أنتظر فرصة عرضه على الجمهور، وفيه صوّرتُ قصائد غنّتها السيدة فيروز، كتحية حب وعرفان للتي حملت في صوتها همومنا وشجننا وفرحنا… وللرحبانيين أيضاً من ورائها ولتلامذتهما، وهم من زرعوا الأمل والجمال في صباحاتنا وأضفوا نكهة على فنجان قهوتها.

(عن العربي الجديد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق