ثقافة وفن

كيف كشفت روايات حمور زيادة المسكوت عنه في تاريخ السودان؟

أحمد زمراوي

يعتقد كثيرون، وأنا منهم، أن مجالَي السينما والرواية في منطقتنا العربية والشرق الأوسط عموماً، هما من المجالات التي ترحّب بالأشخاص ذوي الجرأة على طرح قضايا أو مشاكل تتجنب المجتمعاتُ المحافظة ذِكرَها صراحةً. ولهذا كانت الروايات والأفلام السينمائية متنفساً للكتّاب الراغبين في الحديث عن “التابوهات” الموجودة في مجتمعاتهم. والقصص كثيرة عن كتّاب روائيين تم تكفيرهم، أو تهديدهم بالقتل، أو قامت حكومات بلادهم بمضايقتهم ليعيشوا في المنافي إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ومن هؤلاء الكاتب السوداني الصاعد بقوة حمور زيادة.

وُلد حمّور زيادة في العام 1977 بمدينة أم درمان، التي تعتبر العاصمة الوطنية للبلاد، والتي يقع فيها مقر البرلمان، ويفصلها عن العاصمة السياسية الخرطوم نهر النيل، وعمل في العمل التطوعي والمجتمع المدني وعدد من الصحف السودانية، كما ترأس القسم الثقافي لصحيفة “الأخبار” السودانية. صدرت له عدة أعمال: “سيرة أم درمانية”، وهي مجموعة قصصية في العام 2008، ورواية “الكونج” في العام 2010، والمجموعة القصصية “النوم عند قدمي الجبل” في العام 2014. وقد فازت روايته الثانية “شوق الدرويش” (2014) بجائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2014، وترشحت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2015. وقد غادر زيادة السودان في العام 2009 ليستقر في مصر، بعد أن تعرّض لمضايقات من أجهزة الأمن السودانية والنظام الإسلامي حينها، وتهديدات بسبب ما وُصف وقتها بـ”الإباحية” في رواياته.

من الأشياء التي تُميّز كتابات حمور زيادة خلطه بين التاريخ والدين والسياسة والمسكوت عنه في المجتمع السوداني، وهو يخلط بين هذه العناصر الأربعة في قالب سردي ممتع يصعب معه التوقف عن القراءة حتى آخر صفحة. فالتقنية السردية لشخصيات رواياته تقفز من شخصية وموقف إلى شخصية أخرى وموقف آخر، لتتركك مشدوها لدقائق، قبل أن تعود بك إلى الشخصية الأولى. وهو نمط من الكتابة تحسّ معه وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً أو حلقة لمسلسل ممتع، والتكنيك الذي يستخدمه زيادة في حواراته سوداني بحت، يجمع ما بين العاطفة الدينية ومشاعر الحنين والمجاملة والعبارات التي تعبّر عن الترابط الاجتماعي الذي يشتهر به السودانيون.

في روايته الأشهر “شوق الدرويش” نجد حديثاً هو خليط بين الحب للزوجة وبين العاطفة الدينية، بين أحد جنود جيش المهدي في ثمانينيات القرن التاسع عشر وبين زوجته “ناداني الله يا فاطمة.. أما ترين ما أصاب الدين من بلاء؟ تغير الزمان، ملئت الأرض جوراً، التُّرك.. الكفار، بدّلوا دين الله، أذّلوا العباد، ألا أستجيب لداعي الله ورسوله إذا دعاني لما يحييني؟ سنجاهد في سبيل الله، في شأن الله، نغزو الخرطوم، نفتح مكة، نحكم مصر، ننشر نور الله في الأرض بعد إظلامها، وعدُ اللهِ سيدنا المهدي عليه السلام، وما كان الله مخلفاً وعده مهديه يا فاطمة، واجبة علينا الهجرة، واجب علينا نُصرة الله، عجلت إليك ربي لترضى، وتركت فاطمة ورائي”.

الحوار الدائر بين المقاتل الأنصاري (نسبة إلى أنصار المهدي في السودان) وزوجته يوضّح الطموحات السياسية للدولة المهدية في السودان تحت قيادة خليفة المهدي، عبدالله التعايشي، في أواخر القرن التاسع عشر. وهي طموحات أطاحت بهذه الدولة وكانت سبباً في استعمارها بواسطة الإنجليز، الذين استعانوا ببقايا جيش أحمد عرابي المهزوم. وكثيراً ما أفكر في أن التاريخ يعيد نفسه بعد أكثر من قرن، عندما أتذكر الطموحات السياسية التي قادت الإسلاميين للقيام بانقلاب تصوّروا بعد نجاحهم في تدبيره واستتباب الأمور لهم داخلياً أنهم سيقودون بعده العالم الإسلامي، وهو أمر جرّ على السودان مشاكل ما زال يعاني منها، وتلك قصة أخرى.

الرواية في مجملها تحكي عن أسير سابق في حملة عبدالرحمن النجومي، التي أرسلها الخليفة عبدالله لغزو مصر في العام 1896، والتي أُبيدت وقتل قادتها وأُسر من بقي من الرجال والنساء، منهم بطل القصة “بخيت منديل”، الذي أسرته أسرة مصرية من الصعيد لسنوات، ثم أطلقت سراحه ليعود إلى أم درمان، ليعمل حمالاً في السوق، لتسوقه الصدفة ويقع في غرام فتاة إغريقية غادرت أسرتها المقيمة بمدينة الإسكندرية المصرية للتطوع مع الكنيسة القبطية في الخرطوم، قبل سقوطها في يد جيوش المهدي في العام 1885، لتقع في الأسر، ويتم توزيعها ضمن الغنائم لأحد كبار التجار المقربين من قادة المهدية الجدد. وتتكرر اللقاءات بين الأسير السابق والأسيرة الحالية التي تُعلمه اللغات، ويهيم هو بها وتهيم به، لكنها ترغب في الهرب من هذا الجحيم، وتخطط للهرب لينتهي الأمر بها مقبوضاً عليها، ويقوم سيدها بقتلها، ويكون بخيت منديل، المخمور ليلتها، هو من يقوم بدفنها دون أن يعلم. وينتهي به الأمر مسجوناً هو الآخر لسنوات حتى تحرّره القوات الإنجليزية- المصرية الغازية، ليخرج باحثاً عن ثأره ممّن تسبّبوا في قتل حبيبته وسجنه، ويثأر منهم واحداً تلو الآخر.

رواية “الغرق” لحمّور زيادة تأخذنا من مدينة أم درمان في نهايات القرن التاسع عشر، والدولة المهدية التي تسرد أحداثها رواية “شوق الدرويش”، إلى قرية حجر نارتي في شمال السودان، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حيث تبدأ القصة بجثة غريقة مجهولة تظهر في النيل، في وقت كان فيه الجالسون على شاطئ القرية يضحكون ويتسامرون ويعيدون رواية نفس الحكايات، ويتناقشون في الأخبار التي جلبها المذياع عن حدوث انقلاب عسكري للشيوعيين في الخرطوم. وتدور أحداث الرواية حول شخصيات رئيسية منها بائعة الشاي والقهوة فايت ندو، والتي هي ابنة لخادمة بيت العمدة السابقة عز القوم. وهما من الرقيق السابقين الذين منحتهم الحكومة الاستعمارية حريتهم بموجب القانون. وكانت فايت ندو تحلم بتعليم ابنتها حتى تصبح طبيبة وتخرج من هذه القرية. وشخصية المساعد الطبي في القرية “أحمد شقرب”، وهو شيوعي هارب من بطش الحكومة في الخرطوم. والبشير، شقيق العمدة محمد سعيد الناير، وزوجة العمدة صعبة المراس.

ومثلما تبدأ الرواية بجثة امرأة غريقة في نهر النيل، تنتهي أيضاً بفتاة غريقة هي ابنة بائعة الشاي التي تمنعها زوجة العمدة من مواصلة تعليمها رغم تفوقها في الدراسة، لتصبح متعة لشباب القرية، ومنهم المساعد الطبي القادم من الخرطوم، وتحمل من أحدهم وترفض التخلي عن الطفل، لتأخذه زوجة العمدة عنوة منها، وتعطيه لجماعة من الغجر الرحّالة مقابل موافقتها على مواصلة الفتاة لتعليمها. وتنتهي القصة بانتحار الفتاة في نهر النيل ووأد أحلام والدتها في أن تصبح ابنتها طبيبة. والرواية في مجملها تدور حول ثنائيات الأحرار والعبيد، والقرية والمدينة، الصراع على العمودية بين بيت الناير وبيت البدري، والمرأة الطيبة والأخرى الشريرة، والشيوعيين والمتدينين، والمختلفين بين الديمقراطية والداعمين لحكم العسكر. وفي وسط القصة نجد مقولة لعز القوم، والدة فايت ندو، تقولها بكل جرأة أمام أسيادها السابقين بعد حصولها على الحرية بموجب قانون منع الرق الإنجليزي “الإنجليز يباركوهم الشيوخ السادة.. والعرب ينقصوا ما يلقوا الزيادة”.

المجموعة القصصية “النوم عند قدمي الجبل” ضمّت ثلاث قصص قصيرة، حصلت إحداها على شرف أن تكون قصة فيلم سينمائي جديد للمخرج السوداني الشاب أمجد أبو العلا، هو فيلم “ستموت في العشرين”. وتدور أحداث القصة حول فتى صغير تصادف أن كان أحد شيوخ الصوفية موجوداً يوم ولادته في قريته الصغيرة شمال السودان، ليأخذه والده للتبرك بالشيخ، وفجأة ينهض أحد جيران الشيخ ويهذي بأن الطفل المولود سيموت قبل أن يصل عامه العشرين. ليصبح أمر وفاته قبل بلوغ سن العشرين من المسلّمات وسط ذلك المجتمع القروي البسيط المؤمن بالغيبيات. وليذهب الشاب يوم بلوغه العشرين إلى “مقابر الصحابة” عند الجبل، ويحفر قبره بيديه وينتظر يومه.

روايات حمّور زيادة إذن تناقش قضايا المجتمع السوداني، المبتلى بالنزاعات بين حداثة وتخلف، وإسلاميين ويساريين، وعرب وزرقة، وانفتاح ومحافظة، وعسكر وديمقراطيات، إلى آخر الأضداد. كما تتناول التاريخ الحديث في قالب اجتماعي ممتع يحكي عن شخصيات تتناول تابوهات المجتمع من حديث عن الرق والفساد في عهد المهدية والسطوة الكبيرة لشيوخ الصوفية في أرياف السودان. وهي كلها قضايا تحتاج إلى نقاش أعمق خارج قالب الرواية. وحمّور زيادة نفسه كاتب نشط في السياسة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومتابع لصيق للشأن السوداني، الأمر الذي يجعل القارئ السوداني والعربي يتوقع منه المزيد من الروايات القوية في مخاطبتها للسياسة والتاريخ والمسكوت عنه في المجتمع السوداني وغالبية المجتمعات المجاورة له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق