ثقافة وفن

التناص في رواية موسَمِ الهِجْرةِ إلى الشّمَال… واقعة أسر محمود ود أحمد نموذجا (1)

عبد المنعم عجب الفَيا

التناصص أو التناص intertextuality هو المصطلح الحداثي للدلالة على خاصية الإحالات والإشارات في الكتابة الأدبية، والذي كان يشار إليه في الإنجليزية بكلمة allusion  وهو استحضار الكاتب لنصوص أخرى، أسطورية وتاريخية ودينية ونحوها أو نصوص كتّاب آخرين في نثايا نصه الذي يكتب، شعرا كان أو نثراً.

ويتراوح التناصص من صيغته البسيطة مثل تضمين بيت من الشعر أو الإحالة إليه أو الاستدلال بمقولة مأثورة، إلى صيغه الأكثر تعقيداً كالحوار والمقابلة والتناظر والتضاد والمفارقة مع النص المستدعى. وأحياناً يتحوّل النّص المتناصص معه إلى خلفيّة فقط في الذاكرة الجماليّة تضيء فضاء الابداعي.

وبهذا المفهوم عُرف التناصص في البلاغة العربية القديمة بالاقتباس والتضمين، وهو من المحسنات البديعية المعنوية، ويعرّفه كتاب البلاغة الواضحة بأنه: “تضمين النثر أو الشعر شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف من غير دلالة على أنه منهما، ويجوز أن يُغيّر في الأثر المُقتبس قليلا”.

على أن التناصص في البلاغة العربية القديمة، يتجاوز التضمين والاقتباس من القرآن والحديث، ويمتد ليشمل تضمين شعر الآخرين والإحالة إلى الأقوال المأثورة والأخبار والتاريخ والسِّير والأساطير. (انظر: الخطيب القزويني، تلخيص المفتاح: في المعاني والبيان والبديع).

وتعد المفارقة paradox أحد أهم أغراض التناصص في النص الحداثي. فالكاتب عندما يستدعي نصا ما فهو لا يطمح من وراء ذلك بالضرورة إلى تكراره وإعادة تأكيد ما يقوله، وإنما يهدف في كثير من الأحيان إلى توظيفه وإعادة انتاجه برؤية مختلفة قد تنتهي به إلى التجاوز وإحداث المفارقة.

وقد تنبه بعض علماء البلاغة العرب القدماء إلى أن للتضمين والاقتباس وظيفة أبعد من مجرد الاستدعاء بغرض التكرار لتقوية الأثر الفني، ومن هؤلاء الخطيب القزويني الذي يرى أن “أجود التضمين وأحسنه ما زاد في البيت المضمّن نكتة بلاغية كالتورية والتشبيه”. ص 218، وهو يشير بالنكتة البلاغية هنا إلى إحداث مفارقة جمالية مع النص المقتبس أو المضمّن.

وفي روايةُ (موسم الهجرة إلى الشمال) فريدة كل العصور، الرواية التي “فاتتْ ومسّختْ” ما قبلها وما بعدها من روايات، نجد المؤلف يستحضر ويتناصص مع عدد من النصوص الشعرية والتاريخية حيث ينفتح نص الرواية ويتداخل وينشبك مع هذه النصوص، يكررها أو يتقاطع معها ويعيد إنتاجها، وذلك تبعًا لما تمليه الرؤية الفنية للمؤلّف.

فمن أمثلة التناصص في صورته التقليدية التي لا تتجاوز مجرد الاقتباس والتضمين قول الراوي في مفتتح الرواية: “عدتُ وبي شوقٌ عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النّيل. سبعة أعوام وأنا أحنّ إليهم وأحلم بهم. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى أحسست كأنّ ثلجًا يذوب في دخيلتي. ذاك دفء الحياة في العشيرة فقدته زمانًا، في بلادٍ تموت من البرد حيتانها”.

الجملة الأخيرة في هذا الاقتباس هي تضمين لعجز بيت الشاعر الكبير أحمد شوقي الذي يقول فيه:

وأين التماسيح من لجّةٍ تموتُ من البردِ حيتانُها ومن النماذج التي تشكّل خلفيّة لإضاءة النّص، والكشف عن بعض سياقاته التاريخيّة، استدعاء المؤلف لقصيدة من قصائد الحرب العالمية الأول وهي قصيدة “انتيويرب” Antwerp للشاعر فورد مادوكس هويفر أحد جنود الحرب العالميّة الأولى.

فقد ظلّ مصطفى سعيد في قرية ود حامد ولا أحد يدري شيئًا عن ماضيه في أوروبا حتى عاد الراوي ابن القرية من أوروبا بعد أن نال درجة الدكتوراه في الأدب. فكانت عودة الرواي بمثابة انكشاف سر مصطفى سعيد والبداية الحقيقية للرواية.

فعند عودة الراوي إلى قريته، لمح من بين المرحبين به رجلاً غريبًا لم يره بالقرية من قبل. سأل عنه فقالوا له هذا مصطفى سعيد “ليس من أهل البلد، لكنّه من نواحي الخرطوم جاء إلى البلد منذ خمسة أعوام. اشترى أرضًا تفرّق وارثوها، وتزوّج حسنة بت محمود. رجل في حاله لا يعلمون عنه الكثير”.

وقال جدّه في الثناء على مصطفى “طول إقامته في البلد لم يبدُ منه شيء منفّر، وإنّه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام، وإنه يسارع بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح”.

كان يمكن لحياة مصطفى سعيد أن تسير كالمعتاد في تلك القرية كما أراد لها هو، ولكنّ شيئًا لم يكن في الحسبان حدث رغماً عنه أدّى للتشكيك في حقيقة أمره، ومن ثمّ إلى انشكاف سرّ حياته الأخرى التي عاشها في أوروبا.

كان الراوي في مجلس شرابٍ ببيت محجوب، عندما حضر مصطفى سعيد دون ترتيب للتحدّث في أمرٍ ما مع محجوب، ولكن محجوب طلب منه الجلوس والانضمام إليهم في مجلس الشراب، إلا أنّه رفض. فحلف عليه محجوب بالطلاق أن يجلس ويشرب. فانصاع مصطفى سعيد بامتعاض وجلس وشرب وحينما دبّت الخمرُ في بدنه، واستبدت به نشوة السُّكر، طفق ينشد شعراً إنجليزيّاً بلغةٍ سليمة، وهو ممسكٌ الكأسَ بكلتا يديه، مادّاً رجليه، دافناً قامته في المقعد:

Those women of Flanders,

Await the lost,

Await the lost who never will leave the harbour,

They await the lost whom the train never will bring

To the embrace of those women with dead faces,

They await the lost, who lie dead in the trenches, The barricades and the mud,

In the darkness of night,

This is Charing Cross Station, the hour past one,

There was a faint light,

There was a great pain.

هكذا وردت القصيدة بالترجمة الانجليزية للرواية والتي أنجزها دينس ديفز جونسون. أما الترجمة العربية للقصيدة فقد جاءت بالأصل العربي للرواية كما يلي:

هؤلاء نساء فلاندرز

ينتظرن الضائعين،

ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء،

ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجيء بهم القطار،

إلى أحضان هؤلاء النسوة ذوات الوجوه الميتة،

ينتظرن الضائعين الذين يرقدون موتى في الخندق

والحاجز والطين في ظلام الليل،

هذه محطّة تشارنغ كروس، الساعة تجاوزت الواحدة،

ثمّة ضوء ضئيل،

ثمّة ألم عظيم.

“لم يصدّق الراوي أذنيه. قفز من مكانه ووقف فوق الرجل وصاح فيه: ما هذا الذي تقول؟ ما هذا الذي تقول؟ لم يرد مصطفى سعيد بكلمة بل هبّ واقفًا ودفع الراوي بعنف بيده، وخرج من الغرفة. وكان محجوب مشغولاً يضحك مع بعض من بالمجلس فلم ينتبه لما حدث”.

هذه الواقعة أكدت للرواي أنّ مصطفى سعيد شخصٌ آخر غير ما يزعم. ذهب إليه في حقله ثاني يوم وتعمد أن يبادر سؤال مصطفى سعيد باللغة الإنجليزية. ولكن مصطفى سعيد رد عليه بقوله هل أنستك إقامتك في أوروبا العربي؟ فرد عليه: ولكنك البارحة كنت تقرأ شعراً إنجليزيّاً. فأجاب مصطفى سعيد: السكران لا يؤاخذ على كلامه. فقرّر الراوي أن يرغمه على الكشف عن حقيقته وإلا سوف يكون له معه شأن آخر.

فخاف مصطفى سعيد من أن يشيع عنه الراوي بين أهل القرية ما يمكن أن يثير الشكوك ويعكر صفاء الحياة التي يعيشها بينهم، فقرر أن يفضي للراوي بقصته على النحو الوارد بالرواية.

وفلاندرز الوارد ذكرها في القصيدة، إقليم في بلجيكا ويشمل أجزاء من شمال فرنسا وكان يمثل أكبر مسرح للحرب العالميّة الأولى، وهو ما عرف بالجبهة الغربيّة للحرب حيث دارت العديد من المعارك الشرسة المدمرة طوال فترة الحرب من أكتوبر 1914 وحتى نهايتها في نوفمبر 1918.

وأما (انتويرب) Antwerp عنوان القصيدة، فهي إحدى أكبر مدن إقليم فلاندرز ببلجيكا، وقد شهدت أشرس المعارك وظلّت محاصرة من قبل الألمان إلى أن انتهت الحرب. وتتكوّن القصيدة من ستّة مقاطع اختار الطيّب صالح هذه الأبيات من المقطوعة الأخيرة، والتي تعدّ أكثر أجزاء القصيدة رمزيّةً وغنائيّةً.

وكانت معارك فلاندرز بالجبهة الغربية قد ألهمت الكثير من الشعراء الجنود والأدباء وكتاب القصة والرواية. ومن أشهر هذه القصائد قصيدة In the fields of Flanders “في ميادين القتال بفلاندرز” للشاعر الطبيب محارب جون ماكريJohn McCrae  من كندا.

ومن الأعمال السينمائيّة التي خلّدت ذكرى الحرب فيلم “كلّ شيء هاديء على الجبهة الغربية”، وهو الفيلم المأخوذ من رواية الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك التي نشرت سنة 1929 وتحمل ذات الاسم “All Quiet On The Western Front” .

كان مصطفى سعيد قد وصل لندن سنة 1916، أي بعد عامين من نشوب الحرب العالميّة الأولى التي امتدت لمدة أربع سنوات (1914 – 1918). وفي ذات العام الذي وصل فيه دارت بالجبهة الغربيّة أكبر المعارك كلفة وهي معركة السوم وفردان بشمال فرنسا.

من هنا اتّخذ مصطفى سعيد من هذه الحرب، ومن معركتي السوم وفردان على وجه التحديد، رمزاً على العنف الأوروبي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب حيث يقول في مناجاة له بالرواية:

“إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان. جرثومة مرض فتّاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنّني جئتكم غازيًا في عقر داركم. قطرة من السمّ الذي حقنتم به شرايين التاريخ”.

وقد كان مصطفى سعيد يراقب مجريات الحرب، ويتتبّع أخبار النّصر والهزيمة، وينتقد الطريقة التي أُنهيت بها الحرب في فرساي، بينما يواصل حربه هو الآخر ليلاً بالقوس والسيف والنشّاب مع فتيات الإنجليز، انتقامًا من ذلك العنف الأوروبي الذي فتك بالعالم. وبالنّهار يواصل تأليف الكتب في فضح الاستعمار والهيمنة الإمبرياليّة، فقد كتب: “اقتصاد الاستعمار” و”الاستعمار والاحتكار” و”الصليب والبارود” و”اغتصاب أفريقيا”.

فبعد تخرّجه في أوكسفورد كان سعيد قد عُيّن محاضراً في الاقتصاد، وهو في سنّ الرابعة والعشرين. وإلى جانب تفوّقه الأكاديمي كان مصطفى سعيد ناشطاً سياسيّاً وفكريّاً. فقد كان رئيسًا لجمعية تحرير أفريقيا، وعضواً في الحركة الاشتراكيّة الفابيّة وكان يقيم الندوات لنشر دعوته الإنسانيّة إلى الاقتصاد القائم على العدالة والمساواة والاشتراكيّة:

يقول عن نفسه بالرواية: “كنتُ أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنّهار، وباللّيل أواصل الحرب بالقوس والسيف والنشّاب. رأيت الجنود يعودون، يملؤهم الذّعر من حرب الخنادق والقمل والوباء. رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي. ورأيت ديفيد لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهيّة”.

التناصص مع واقعة أسر محمود ود أحمد

ولد بطل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) مصطفى سعيد بالخرطوم في أغسطس 1898م. وهذا التاريخ له مغزى ودلالة خاصة فهو العام الذي أكمل فيه الجنرال الإنجليزي كتشنر احتلال السودان والاستيلاء على مدينة أم درمان العاصمة الوطنية بعد أن هزم جيوش الدولة المهدية في معركة كرري، الفاصلة، على مشارف أم درمان شمالا.

لكن قبل معركة كررى كانت هناك معركة كبرى انتصر فيها كتشر ومهدت له الطريق إلى أم درمان وهي معركة أتبرا (عطبرة) أو بالأحرى معركة (النخيلة) شرق بربر والتي وقعت في سبتمبر 1898م وكان قد واجه فيها الجيش الغازي الجيش السوداني بقيادة الأمير الشاب محمود ود أحمد الذي أسر في المعركة وأرسل منفيا إلى مصر حتى توفي هناك.

وقد تناصصت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) مع واقعة أسر الأمير ود أحمد وذلك في مونولوج داخلي طاف بمخيلة مصطفى سعيد بينما كان جالسأ في قفص الاتهام يحاكم بتهمة قتل زوجته (جين مورس) والتسبب في انتحار فتاتين من صديقاته قبلها. يقول في جانب من ذلك المونولوج محدثاً نفسه:

“حين جيء لكتشنر بمحمود ود احمد وهو يرسف في الاغلال بعد ان هزمه في موقعة أتبرا قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا”. ص 127،128

غير أن البعض اعترض على الطيب صالح لعدم التزامه بحرفية وقائع التاريخ في الحوار الذي دار بين محمود ود أحمد وقائد حملة احتلال السودان كتشنر. فقد رأوا في جملة: “وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا” التي أدخلها الطيب صالح من عنده، مطعنا في كرامة وإباء محمود ود أحمد. فالأمير ود أحمد بحسب الروايات التاريخية التي يستندون إليها “لم يطاطىء الرأس” قدام كتشنر كما جاء وصفه في الرواية وإنما وقف أمامه نداً لند، مرفوع الرأس في عزة ورباطة جأش.

وهذه النظرة النقدية التي تحاكم النص الإبداعي بمعايير وقائع التاريخ تغفل خصوصية الكتابة الأدبية كما تغفل وظيفة التناصص التي تحدثنا عنها فتصادر حق الكاتب في معالجة وقائع التاريخ بما يلائم غرضه الفني والبلاغي.

ونحن نعلم أن هناك نوعا من الروايات يسمى (الرواية التاريخية) وهي تقوم أصلاً على حرية الكاتب في المزج بين وقائع التاريخ والخيال الأدبي، فما بالك بحريته في الروايات الابتداعية الصرف. إن الرواية الأدبية من حيث هي، ليست مصدرا لحقائق التاريخ ولا ينبغي لها أن تكون، ومن أراد الحقيقة التاريخية المجردة من ملابسات الفن، فليلتمسها في مظانها ومصادرها وهي كتب التاريخ.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق