
السودان … فشل مزمن في التنمية المستدامة لطغيان الغوغائية وافتقاد الغائية
مصطفى يوسف
يكشف كرونولوجي الحياة السياسية السودانية، بكافة مسمياتها وصيغها التي تماست مع السلطة التنفيذية للدولة، عن الفشل المريع في تحقيق أي معدلات نمو، بما يساعد تراكمياً وبالتخطيط العلمي الممنهج في الوصول للتنمية المستدامة، بما تعنيه من عملية تطوير تتناول الأرض والإنسان، وتحقيق المساواة والعدل الاجتماعي وتلبية الاحتياجات دون المساس باحتياجات الأجيال القادمة، إلا جزئياً في سنوات لا تتعدى أٍصابع اليد الواحدة، تخللت الديموقراطيات الثلاث، وهذا معطى، لا يحتاج إلى كثير جهد وعناء لإيضاحه، إذ يكشف عن نفسه ويتمظهر من الأداء العام، وما يتجسد على مستوى دخل الفرد، وهو الأقل في العالم، كما ينعكس ذلك من خلال المستوى المعيشي ومظاهر الحياة العامة.
طبق السودان أول تجربة حقيقية للتخطيط الشامل من خلال الخطة العشرية61/1962 – 70/1971، التي سبقتها خطتان خمسيتان، كانتا خلال الحقبة الاستعمارية، 1946 – 1951، ثم 1951 – 1956، لازمها كلها الفشل، وما تبعها من خطط لاحقة، لعدم الاستقرار السياسي وغياب الفلسفة والمنهجية، وطغيان الغوغائية، وانعدام الغائية وتفشي ظاهرة الفساد، بنسب متفاوتة، بلغت ذروتها مع نظام الانقاذ البغيض.
لازم هذا الفشل الذي تؤكده الأرقام وواقع الحال، الدولة منذ الاستقلال في يناير 1956م، وحتى الآن، لأن الجهد انصب عبثياً في قضايا انصرافية هامشية وانصرف إلى تحقيق مكاسب الأنا على حساب المصلحة العامة، مع فقدان البوصلة التي تحدد اتجاهات التعاطي مع الضروري، بل والأهم والملح من المسائل، هي التي وُلِدت الدول ونشأت من أجلها.
سأتبنى هنا تعريف التنمية المستدامة الذي صدر عن الأمم المتحدة عام 1987م، والذي يقرأ بأنها: ” التنمية التي تستجيب لحاجيات الحاضر دون ان تعرض للخطر قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها “.
وبتطبيق ذلك على مخرجات حركة الاقتصاد في السودان، أتلمس الخرق الواضح لمبادئ وأسس هذا النوع من التنمية، وأي نمو اقتصادي، لأن هذه الحركة لم تفلح في تلبية الاحتياجات الضرورية، وسجلت كل الخطط الفشل تلو الآخر، منذ أول خطة تبنتها الحكومة وحتى اللحظة.
تؤكد ثبويتة الأرقام ارتفاع نسبة الفقر إلى معدلات قياسية، حيث بلغت70%، خلال العام 2020م، وهذا مؤشر يعني بالضرورة فقدان الهوية الاقتصادية والبرمجة العلمية للتنمية بما يتناسب وتلبية الاحتياجات واستغلال الامكانات، ويعد أهم معضلة تواجه حركة الاقتصاد وتتطلب جهداً علمياً منظماً، يأخذ في الاعتبار شمولية الأهداف، ومحاولة الخروج منها ضمن تخطيط استراتيجي، يستوعب كافة جوانب الأزمة والتعامل معها بفكر ومنهجية.
تذيل السودان قائمة الدول العربية في دخل الفرد، وفق آخر تصنيف صادر عن صندوق النقد الدولي، وهو مؤشر إحصائي يقرأ جملة من المتغيرات الاقتصادية، بما فيها الضعف الناتج عن النمو، وحسب تصنيفات البنك الدولي، فالسودان يأتي ضمن الشريحة منخفضة الدخل على مستوى العالم.
وإذا كانت هذه النتائج متوقعة في ظل عدم الإحاطة الكاملة بالظروف والمعطيات، وارتهان التفكير الاقتصادي لدى منظومة غير مقتدرة، وهذا أمر يمكن إعادة النظر فيه بل وتبريره، لكن ما لا يمكن قبوله او تبريره هو المرتكز الأهم وهو مصادرة حق الاجيال القادمة في تلبية احتياجاتها، وهي الجريمة التي ارتكبتها الانقاذ، برهنها الأرض بكل إمكاناتها ومقدراتها الاقتصادية لعدد من الواجهات الاقتصادية، لدول أو بيوتات اقتصادية أو شخصيات، لأكثر من 99 سنة قادمة، بقانون الاستثمار، وبهذا التغول حطمت الانقاذ، بصورة لم يسبقها مثيل الأبعاد اللازمة للتنمية المستدامة، فانسحبت النتائح على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبئية، لأنها في الأساس انحرفت بفقه إدارة الدولة إلى درجة الشذوذ عن الثابت والمتعارف عليه.
هي ليست شماعة أعلق عليها الفشل أو سوء الإدارة وانعدام التخطيط، لكني أسوق هذا لأن الانقاذ هي النظام الوحيد من بين الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد الذي تجرأ على أن يصادر حق أربعة أجيال قادمة، في استغلال مواردها ووضع الرؤية لذلك، حسب معطيات ذاك الزمان، هذا تجن وتعدٍ، لا يصدر عن نفس سوية، أو عن منظومة تدعي لنفسها القدرة على التفكير أو البرمجة. كما أنها شوهت الحياة الاجتماعية بشكل مرعب بالحروب التي شنتها وقوضت بها المساواة وأسس العدل، وأشاعت التفرقة العنصرية ومارست الاضطهاد على نطاق القطر، وفرضها منظومة ضريبية غير عادلة في ظل انعدام نُظم الحماية الاجتماعية، والتوزيع غير العادل للثروة، بخلق طبقات طفيلية، هي التي كانت تتحكم في مجمل الحركة الاقتصادية، فانقسم المجتمع بين غنى فاحش وفقر مدقع، بما يؤذن بالانفجارـ في أي لحظة، وهو أمر لا يمكن أن تستقيم معه في المستقبل أي خطط للتنمية المستدامة أو غيرها، لافتقادها لأهم المعايير.
تبنت سياسة التحرير الاقتصادي غير المنضبط، ودمرت البنية الاقتصادية، وحولت الاقتصاد من زراعي إلى آخر يعتمد على البترول، كسلعة واحدة، وهو غباء، وجهل، وانهت سيطرة البلاد على سوق الصمغ العربي والثروة الحيوانية، ورهنت الأرض لأجيال قادمة، وتخلفت عن ملاحقة وتبني أساليب الإنتاج الحديثة، بسبب المراهقة السياسية، التي قادتها إلى عقوبات دولية، هي التي أقعدت الدولة إلى الآن عن القيام بواجبها ووظائفها على أكمل وجه.
يُضاف إلى كل هذا العمل الممنهج لتدمير البيئة، سواء باستغلال غير مرشد للثروات الكامنة في الأرض، بما يعني سلب الأجيال القادمة حقها في الاستفادة منها، أو عبر النفايات النووية التي دفنت في الأرض، على مرمى حجر من مناطق السكن في الريف والحضر، وبعضها في الصحراء، واعترف بذلك مسؤولون في جهاز الدولة، وقد ألقت هذه النفايات بتبعاتها على صحة الإنسان والحيوان، فتفشت السرطانات والأمراض الغامضة والفتاكة (الإنسان محرك التنمية والمقصود بها).
إن هذه الهجرة المتواصلة من الريف إلى المدينة والتحولات الكبرى على صعيد المدن، لهي من أهم المؤشرات التي تكشف انعدام برامج التنمية المستدامة، وفقدان البوصلة الهادية، التي تشير إلى وتحدد مكامن الأهداف، ما يضعف من احتمالات التعايش السلمي، ويرفع ويسرع وتيرة الصراع، لتكاثر بؤره المغذية، وهي القنبلة الموقوتة التي ستنسف كل الجهود.
حالياً، تنفذ الحكومة الانتقالية خطة اقتصادية طموحة مدتها10 سنوات،لانتشال الاقتصاد من الحفرة التي تردى فيها، بسبب سياسات التخبط والتيه، خاصة في الثلاثين سنة الماضية، يساعدها المجتع الدولي وأصدقاء السودان، إلا أن المتوقع هو ذات النتيجة الصفرية، لأن النشاط الاقتصادي يجري بعيداً عن متناول يد الدولة، التي لا تسيطر إلا على 18% منه، باعتراف رئيس الوزراءالدكتور عبدالله حمدوك، وهذا وضع شائه وشائن،لن ينعدل معه الحال، مالم تخضع شركات ومؤسسات القوات النظامية جميعها للمراقبة والمراجعة المالية،وتنتهي ظاهرة الكانتونات الاقتصادية، لتتأسس مباديء التوزيع العادل للثروة، إلا من التنافس الحر، حتى يعمل الاقتصاد في اتجاهه الصحيح، ومن ثم البدء في برامج تنمية مستدامة حقيقية، تقوم على السلام الاجتماعي وتعمل لتحقيق العدالة.