سياسة

Klaus Dörre كلاوس دُور

يوتوبيا الاشتراكية ... بوصلةٌ لثورةٍ مُستدامةٍ (2 - 3)

تقديم ومراجعة د. حامد فضل الله / برلين

وفي فقرة المثلث الأساسي للاشتراكية يقول:

هناك أسبابٌ عديدةٌ لاشتراكية جديدة. ولكن ما هي العيوب الاجتماعية التي تتطلب رؤية بيئية واشتراكية؟ تعود الإجابة على هذا السؤال أولاً وقبل كلّ شيء إلى الفهم الماركسي الأصلي للاشتراكية. في الكتيب الذي تمّ الاستشهاد به، برر فريدريك إنجلز الحاجة إلى تحول اشتراكي خاصّة مع الصراع بين «الإنتاج الاجتماعي والتملك الرأسمالي». تسود الفوضى في الانتاج الاجتماعي» ، ومع ذلك تتبع التنمية الاقتصادية قيود المنافسة، التي أكدت نفسها على أنها « طبيعة عمياء» وراء ظهور المنتجين. تسببت هذه القيود في هيمنة المنتجات على أولئك الذين صنعوها. إلغاء التملك الرأسمالي الخاص يمكن فقط، أن تنفتح الثروة الاجتماعية التي تحققت بفضل تطور القوى المنتجة لتنمية قدرات جميع الناس.

حتى ذلك الحين، بحسب إنجلز، فإنّ منطق الاستيلاء على علاقات الملكية الرأسمالية يعيق منطق التنشئة الاجتماعية في تطور القوى المنتجة. وفقًا لذلك، فإن الاشتراكية هي الصيغة الاجتماعية التي يمكن من خلالها زيادة حدّة الصراع الدائم بين الإنتاج الجماعي والمُخصصات الخاصّة سياسياً. ينبثق من تحليل إنجلز للرأسمالية ما يمكن تسميته بالمثلث الأولي للاشتراكية. يجب التغلب على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستبدالها بالملكية الاجتماعية الجماعية من أجل إزالة الأغلال التي تعوق تطور القوى المنتجة. فقط هذا التحول في علاقات الملكية يجعل من المُمكن استعادة السيطرة الاجتماعية على عملية الإنتاج، التي ينظمها العمال أنفسهم وربطها مرّة أخرى بالاحتياجات المجتمعية. الهدف الرئيسي للروابط في المثلث الأولي للاشتراكية هو «المساواة الجوهرية.

لا ينبغي الخلط بين هذا الهدف والمساواة. في البداية، ما هي إلاّ مسألة إلغاء عدم المساواة الهيكلية المحددة التي تشكل الرأسمالية مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. الفرضية المصاحبة هي أنّ

إلغاء الملكية الرأسمالية الخاصّة لوسائل الإنتاج يساعد في التغلب على التفاوتات الأخرى أيضاً، لأنّه بهذه الطريقة يمكن منع الأزمات أو التخفيف من حدّتها ويمكن استخدام التوزيع المتكافئ كقوة إنتاجية.

هذا التبرير الماركسي للتحول الاشتراكي ليس خاطئاً تماماً، حتى اليوم، لكنّه بعيد عن أن يكون كافياً. إن المثلث الأولي للاشتراكية مجرّد وعام، لدرجة أنّه يمكن دمجه في استراتيجيات التحول المتنافسة. عندما كتب إنجلز سلسلة مقالاته، كان يفكر بالفعل في بدايات رأسمالية صغيرة سياسياً ومالياً، وأصبح تطورها موضوع جدال حادّ، نظريّ واستراتيجي سياسي داخل الحركات العماليّة ويميل إنجلز نحو إضفاء الطابع الاجتماعي على وسائل الإنتاج ومضيفا:

«إذا كشفت الأزمات عن عجز البرجوازية عن إدارة قوى الإنتاج الحديثة، «فإن تحويل مؤسسات الإنتاج والنقل الكبيرة إلى شركات مساهمة وإلى ممتلكات الدولة، يظهر قابلية الاستغناء عن البرجوازية لمثل هذا الغرض».

يجادل إنجلز هنا بميل نحو إضفاء الطابع الاجتماعي على وسائل الإنتاج، والذي لا يزال يحدث داخل الرأسمالية. ويفسر تكوين شركات الأوراق المالية وملكية الدولة كإعداد مادي لمجتمع اشتراكي.

كما يستعرض دُور بإسهاب آراء استنتاجات للعديد من الماركسيين، القدامى مثل أنطونيو غرامشي ونظرية الهيمنة، وجورج لوكاش وعلاقته بماكس فيبر، والمحدثين، المتشددين والاصلاحيين، في تحليل الرأسمالية وأفكار التحول الاشتراكي، مثل تركيز رأس المال ومركزيته، تحليل اقتصاد السوق الرأسمالي وإلى فكرة التطور التدريجي، وإن الأزمات في الاقتصاد الرأسمالي هي أحداث مؤقتة، والتي تعود إلى التوازن عاجلاً أم آجلاً، أو أنّ التنافس والأزمات تزيد من مخاطر الحرب، تتغلب ملكية وسائل الإنتاج على فوضى الأسواق الرأسمالية. ونبذ الفكرة القائلة بأنّ الثورات الاشتراكية ممكنة فقط في البلدان المتقدمة صناعياًّ. وبالنسبة لفلاديمير لينين، لم تكن الإمبريالية في عصره «أعلى مراحل الرأسمالية» فحسب، بل هي في الوقت نفسه مؤشر على دستورها الطفيلي البالي.

ويواصل: إن المشكلة الأساسيّة في تحليلاتهم متجذّرة في حقيقة أنّها تقوم بإبطال السمات الهيكلية للرأسمالية أيضاً، والتي أثبتت تاريخياً أنّها قابلة للعكس أو على الأقل قابلة للتغيير. إذا اتّبع المرء أطروحة لينين، فإنّ الرأسمالية الفوردية، التي تنظمها حالة النقل، والتي سادت في العواصم الرأسمالية بعد عام 1945، ما كان يجب أن تكون موجودة على الإطلاق. لم تكن الإمبريالية في أوائل القرن العشرين هي المرحلة الأعلى والأخيرة من الرأسمالية، بل كانت مرحلةً واحدة فقط، وإنّها بلا شكّ مرحلة وسيطة بالغة الأهمية في التطور الرأسمالي، ويعود الكاتب إلى إنجلز، الذي يتعرض إلى أسباب التحليل الديناميكي للرأسمالية، الذي ينتقد الاحتجاج بالأهداف النهائية والمراحل النهائية، بقوله:

«ليس لدينا هدف نهائي، نحن أنصار التطور، ولا ننوي إملاء قوانين نهائية على البشريّة، بمفاهيم مسبقة فيما يتعلق بتنظيم المجتمع المستقبلي بالتفصيل؟ لن تجد أي أثر لذلك معنا. نشعر بالرضا عندما نضع وسائل الإنتاج في أيدي المجتمع بأسره».

جاء في فصل: «القوى المُنتجة: الاشتراكية الرقميّة؟ وهي إجابة مفترضة لأزمة نمو الرأسمالية، ويشير إلى الثروة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والدعوة إلى توزيع عادل، مما يمنح كلّ فرد وقت فراغ، وساعات عمل قصيرة وتطوير الذات، ويرى أن تطوير وتطبيق واستخدام التكنولوجيا الرقمية تلعب دوراً في هذا المجال.

وتمثل الطفرة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجارية حالياً، ردّة فعل لأزمة الكماشة ومعضلة نمو المجتمعات الرأسمالية المتقدمة.

لقد أصبحت الرقمنة منذ فترة طويلة ساحة معركة للمنافسات الإمبراطورية، والتي تدور في الأساس بين القوى العالمية، الصين والولايات المتحدة وشركات التكنولوجيا الخاصة بهما. تلعب أوروبا حالياً دوراً جانبياً. ويتم إنشاء شركات تحتكر المعرفة والتكنولوجيا بدعمٍ سياسي، وأسواق خاصة، أي مغلقة. ويتم التركيز على وسائل الاِعلام أيضاً، حيث سيطرت أكبر 50 شركة في الولايات المتحدة الامريكية على 90 في المئة في عام 1983، وحالياّ ست شركات فقط، تمتلك 90 بالمائة مما يراه ويسمعه ويقرؤه المواطنون الأمريكيون عبر وسائل الاِعلام. لقد حققت هذه الشركات (تم ذكرها بالاسم) في عام 2010 عائدات مجتمعة بلغت 275 مليار دولار أمريكي.

لم يتم في ألمانيا الاستحواذ على وسائل الاِعلام تماماً، لكن هناك بلا شك اتجاهات تشير إلى نفس الاتجاه. لا يمكن مواجهة ذلك إلا بمساعدة قواعد ملزمة، التي تهدف إلى الدفاع عن الجمهور وتوسيع نطاقه، وأقل تدخل ممكن من الدولة في بنية الاِنترنت أيضاً. كما أن الشفافية لن تكون كافية لتمكين السيطرة الديمقراطية، إذا كان عدد قليل من الشركات يهيمن على وسائل الاِعلام، وهذا له تأثير على جودة المعلومات.

إن استيلاء الرأسمالية الخاصة على الفضاء العام، يمكن أن يؤدي إلى تدمير العقل تقريباً. كما يجب في المقابل أن يعطي قطاع الإعلام الممول من القطاع العام مساحة للبحث عن الحقيقة، و استخدام المبدأ العلمي، للمعرفة والشكّ. ويجب ألا يعتمد البث، في المقام الأول على معدلات عدد المشاهدين، واختيار مجموعة محددة لاستهدافها، بهدف التسلية والإلهاء، وإنما يجب تقديم عروض ومعلومات جادة. وهذا يعني، أن وسائل الإعلام الرائدة – وقبل كلّ شيء البث العام – يجب أن تكون مؤمّنة مالياً، وكذلك يجب تحسين نوعيتها وإضفاء الطابع الديمقراطي عليها.

يمكن أن تكون السيطرة الديمقراطية على المجال العام، مهمة أخرى لمجالس التحول والاستدامة، والتي يجب أن تضمن التعددية وعدم تترك الدفاع عن حريّة التعبير للشركات الخاصة.

بعد ذلك، يقوم الكاتب في هذا السياق بشرح العديد من محاور الصراع في نظام اليوم – ركود الاقتصاد، وعدم المساواة كعائق أمام النمو وخطر الإبادة البيئية. كما ينتقد المؤلف، فكرة أن جميع الناس يتأثرون على قدم المساواة بالأزمات الإيكولوجية وينتقد في نفس الوقت التهميش النظري والسياسي لمفهوم الطبقة ، كما جاء في الكثير من أدبيات النمو النقدية «. وهو يود التغلب على هذه العوامل الثلاثة للأزمة من خلال الاشتراكية المستدامة، ويجادل في الوقت نفسه، بأنّه لا توجد حلول رأسمالية لأزمة الكماشة المتأصلة في الرأسمالية – خاصة وأنّ هذا النظام، وفقاً للمؤلف، يخلق المشاكل في المقام الأول.

ثم يقوم الكاتب بتطوير (الأسس المعيارية» للسياسة التي يقترحها. ووفقاً له، يمكن أن تكون أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة بمثابة أساس معياري، فهي لديها ميزة، كونها أكثر واقعية، وتتميز هذه الأهداف بتركيز قوي على القضايا الاجتماعية – إن مكافحة الفقر والجوع وتقليل عدم المساواة داخل الدول وفيما بينها جديرة بالملاحظة بشكل خاص هنا. ويفتقد دُور هذا التركيز على البرامج الاجتماعية في البرامج السياسية كمثال ذلك، الصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبي، وفي العديد من الدراسات حول سياسة المناخ، والتي يتهمها بـ «الجهل السياسي بأهداف الاستدامة الاجتماعية وإمكانية نشوب صراع بينها.

وبخصوص ملامح المجتمعات الاشتراكية المستدامة، يتناول بالتفصيل مناقشة العديد من العناصر الفردية لنظام اجتماعي جديد، مثل الهيكل القانوني الجديد، وأشكال الملكية الجماعية، والديمقراطية الاقتصادية، والاقتصاد الدائري، والأجور المعيشية، وخفض ساعات العمل، ورفع مستوى أعمال الرعاية ومجالس الاستدامة. وباختصار تختلف الاشتراكية المستدامة عن النظام الحالي، قبل كل شيء في أنه «بدلاً من السعي لتحقيق الربح، تحدد الاحتياجات الاجتماعية والتعاون والتعلم الجماعي والعلاقات الاجتماعية القائمة على التضامن الديناميكي» ويتم «استيعابها» على التوالي، وتحديدها كهيكل مدمج، واختيارها وبشكل متزايد لاستراتيجيات العمل الفردي والجماعي»

وعندما يتحدث عن «الكفاءة» يربطها بالتخطيط الديمقراطي، والعمل الإنساني، وحرية الحياة، فيركز على بعض القطاعات والمجالات ذات أهمية استراتيجية بارزة لتحقيق الاستدامة، فالقطاع المصرفي والمالي هو «قلب الرأسمالية» أو مصادرة الأراضي كما جاء ذكرها سابقاً يجب تفكيكها وإعطاء شكل الملكية العامة وعلى هذا النحو، يمكن وضع السوق المالية بشكل منهجي في خدمة الاستثمارات المستدامة في قطاعات النقل والطاقة والبناء.

ولكي ينجح التحول، يجب التخطيط لاستخدام الأدوات المناسبة مثل القروض والاستثمارات وكذلك التدابير في مختلف مجالات السياسة العامة. ويدافع المؤلف عن إدخال هذه العناصر الاقتصادية المخططة ومزيج جديد من السوق والخطة في الاقتصاد المستقبلي. كما يرفض الحجج ضد الاقتصاد المخطط بالقول إنه سيستند إلى فرضية خاطئة حول اقتصاد السوق.

ويتناول الكاتب جائحة الكورونا وعواقبها على تحول المجتمع من حيث الاستدامة الاجتماعية. ويوضح أنّ الوباء وإجراءات مكافحته قد فاقمت أزمة الكماشة الاقتصادية والبيئية بشكلٍ كبيرٍ.

اللقاحات هي مثال مركزي لمطلبه العام لتطوير مفاهيم الملكية الجديدة، في هذه الحالة معالجة اللقاحات كمنفعة عامة عالمية، من أجل الاقتراب خطوة من تحقيق أهداف التنمية المستدامة. والتفكير في إمكانيات خلق « أغلبية ليوتوبيا الاشتراكية، مع عدم تجاهل العقبات والانقسامات.

لقد صدر الكتاب قبل اندلاع الحرب الروسية الأكرانية، وبما أنّ الطبعة الأولى نفدت بسرعة، جاءت الطبعة الثانية ــ التي اعتمدناها في هذه المراجعة ــ مزيّلة بخاتمة إضافية، نوردها هنا باختصارٍ شديدٍ.

يكتب دُور، إن التقرير الأخير الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، لا يترك مجالاً للشكّ، بأنّ ما يقرب من نصف البشرية يعاني بالفعل من عواقب المناخ الناتج عن الأنشطة البشرية.

يعترف الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش بالفشل، بل بالجريمة في حماية المناخ، فمن الواضح بالفعل أنّ العقبات التي تحولُ دون ثورة الاستدامة ستستمر في الارتفاع، بسبب الحرب غير قانونية، التي شنّها الاتحاد الروسي في 24 فبراير 2022 على أوكرانيا.

إن السجل المروع للأسابيع الأولى من الحرب، أظهر أمن الإمدادات مرّة أخرى قبل حماية المناخ في الغرب. وأصبح التخلص التدريجي السريع من توليد الطاقة التي تعمل بالفحم موضع تساؤل، وحتى إطالة العمر الافتراضي لمحطات الطاقة النووية، أصبح خياراً مرّة أخرى. وتحظى إعادة التسلح الآن بالأولوية على المجتمع السلمي الشامل.

وفي ضوء الحرب في أوروبا مرّة أخرى وتلاشي الخطّ الفاصل بين الحرب والسلام، وإمكانية الاِنزلاق إلى حرب عالميّة ثالثة، هل ما زال من المنطقي الدفاع عن «يوتوبيا الاشتراكية؟ ولكن هذا بالضبط، مما يجعل البحث عن البدائل الاجتماعية أكثر أهمية.

ويواصل، يتعلق اهتمامي الأول بأزمة الكماشة الاقتصادية – البيئية والمنافسات الإمبريالية التي أدت إلى حرب أوكرانيا.

إن محاولات التوغل في رأس بوتين، غالباً ما تتجاهل السبب الرئيسي للتصعيد. الاتحاد الروسي دولة ذات وضع شبه هامشي فقط. أعقبت «اشتراكية الحصون» في الاتحاد السوفيتي، بعد مرحلة انتقالية مع الانفتاح على مسارات مختلفة للتنمية، رأسمالية حصينة للأقلية، التي تعتمد كفاءتها الاقتصادية بشكل أساسي على تصدير الوقود الأحفوري. تدين روسيا بما يصل إلى 43 في المائة من دخلها للنفط والغاز الطبيعي. ويعني هذا الاعتماد على موارده الطبيعية أنه من دون تغيير هيكلي اقتصادي جذري، سيكون الاتحاد الروسي حتماً من بين الخاسرين في تحول الاستدامة في البلدان المستفيدة. كلما كان هناك تحرك أسرع بعيداً عن الوقود الأحفوري ، ستصبح احتياطيات النفط والغاز الروسية أقلّ قيمة. ربما يكون هذا أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل السيناريوهات المستقبلية لدائرة القوى التي تحيط بالحاكم المستبد بوتين قاتمة للغاية.

(يبع)

ثانياً، مع عدوانه على أوكرانيا، فرض نظام بوتين تطوراً وصفته في الكتاب، بأنه «تأثير طوق الخنق». في الأوقات المضطربة، تجعل التكاليف الثابتة المرتفعة للغاز والنفط، الاقتصاد القائم على زيادة استهلاك الموارد معرّضاً للخطر بشكلٍ خاصٍ. مثل طوق الخنق على الكلب، لا يمنع عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي بالضرورة كلّ النمو الاقتصادي، لكن الأسعار ترتفع بسرعة والربحية تنخفض، واستعداد الشركات للاستثمار ينخفض بسرعة وتزداد الصراعات حول التوزيع. تتبنى البوتينية استراتيجية عدوانية عالية المخاطر للاستفادة من هذا التأثير وإلحاق الضرر بنفسها في نهاية المطاف، فالاتحاد الأوروبيّ هو الشريك التجاري الأكثر أهمية لروسيا. بسبب العقوبات، سترتد الحرب وارتفاع الأسعار بقوّة مُدمرة على اقتصاد الاتحاد الروسي أيضاً. قد يؤدي هذا إلى سلب الولاء الجماهيري لبوتين، ولكن الغرب سيعاني أيضاً.

ثالثًا، يثير السؤال هنا: كيف يتمّ تصنيف نظام بوتين وتحليله. لنعبر بصراحة: لا يمكن اختزال أسباب ممارسة الحرب العدوانية إلى أسباب اقتصادية ولا يمكن العثور عليها فقط في توسع الناتو باتجاه الشرق، الذي يمثل بلا شكّ إشكالية كبيرة. يقوم الطابع التوسعي للبوتينية على الإرادة لتراكم السلطة السياسية، والتي لا تقتصر حالياً على المجتمع المدنيّ الديمقراطي أو النظام السياسي. وهذا ما يميز البوتينية عن الترامبية، التي – على الأقل في الوقت الحالي – هُزمت في انتخابات ديمقراطية. تتكشف البوتينية بعيداً عن مثل هذه الفرص للتصحيح الذاتي السياسي. كما هو موضح في الكتاب، الذي يستند إلى حنة أرندت، يمكن للإمبراطورية التي تسعى جاهدة لتوسيع نطاق حكمها، أن تصبح مُستقلة عن المصالح الاقتصادية أو حتى أن تسبق هذه المصالح. ومع ذلك، فإنّ نظام بوتين ليس بأي حال من الأحوال إمبريالية كلاسيكية، وبالتأكيد ليس نهضة للشيوعية السوفيتية. يجسد بوتين سلطوية إبادة، تتفاعل مع انهيار القوة العظمى السابقة الاتحاد السوفيتي في ظلّ ظروف أزمة الكماشة. تصف الإبادة ، وهي فكرة جديدة للمؤرخ الماركسي إي بي طومسون ، آليات الاقتصاديين والأنظمة السياسية والأيديولوجيات التي «تعمل كقوة دافعة في اتجاه ، يجب أن تكون نتيجتها إبادة جماهير كبيرة من الناس». إبادة بوتين تمزج الكليشيهات من التطلعات القيصرية لقوة عظمى مع الوحدة السلافية – القومية ، والحنين السوفيتي ونظرة إلى العالم تتوافق مع مخطط صديق عدو لكارل شميت. تهدف هذه الأيديولوجية المرقعة إلى إضفاء الشرعية على النوايا التوسعية، لكنها لا تحتوي على أي شيء جاذب وليس لديها مخطط للمجتمع يمكن أن يشع بشكل إيجابي. وتستند ملاءمتهم للجماهير على القمع، إلى جانب عبادة القائد، والولاء الأعمى، والمعاناة لواسعة النطاق للشعب. ما يبقى جوهر البوتينية هو سعيه لتوسيع مجالات النفوذ، إلى جانب الرغبة في شمولية السلطة السياسية. هذا هو الطموح الذي تحدده مادلين أولبرايت، كما هو مقتبس في الكتاب، على أنّه السمة الرئيسية للفاشية الجديدة. يجب أن نضيف أن الفاشية تتضمن دائماً الاستعداد لسقوطها كخيار في حسابات سلطتها السياسية.

عندما نضع أمام أعيننا القوى المُدمرة للسلطوية الإبادية، تصبح المناقشات حول بوصلة الاستدامة أكثر إلحاحاً، لذلك يسعدني أن كتابي، يساهم في النقاش حول الاشتراكية، التي يبدو النقاش حولها، على ما يبدو، قد عفا عليه الزمن. وكما هو متوقع، فأن هذا النقاش سوف يكون مثير للجدل.

بغض النظر عن كيفية تطور الحرب والمواجهة، فإنهما سيعجلان بنهاية راديكالية السوق.

على الرغم من العدوان الروسي، لا يوجد سبب لبرامج إعادة التسلح العملاقة. تتجاوز بالفعل ميزانيات التسلح لدول الناتو الميزانية المقابلة للاتحاد الروسي عدة مرات. أنظمة الأسلحة التي لم يتم تطويرها بعد، لن تكون ذات فائدة لأوكرانيا في نضالها من أجل البقاء. يمكن تمويل القوات المسلحة ذات المهام الدفاعية الصارمة، ولكنها قويّة بما يكفي للوقوف في مواجهة نظام الاِبادة بشكل جيد، حتى مع انخفاض ميزانيات الدفاع.

ولكن لماذا لا يوجد صندوقٌ خاصٌ لحماية المناخ المستدامة؟ إذا طُرح مثل هذا السؤال، فإنه يؤدي إلى نقاط انطلاق بنية تحتية لاِشتراكية مستدامة.

تعني الاستدامة تجاوز مبدأ الملكية هذا – من خلال الأشكال الجماعية للملكية التي تعزز المسؤولية الذاتية ، مع توسيع الديمقراطية لتشمل الاقتصاد ومن خلال إعادة التوزيع القائمة على التضامن للثروة المتولدة بشكل جماعي، والتخطيط التشاركي، والانتقال إلى الإنتاج المستدام وأنماط الحياة. تتم الآن مناقشة مثل هذه البدائل بجدية في حركات المناخ، والنقابات العمالية، والمنظمات البيئية، والأحزاب السياسية، والمجتمع العلمي. ويشير هذا إلى القيمة العملية لليوتوبيا الفعلية، التي كتب عنها أوسكار وايلد: «إن خريطة العالم التي لا تُظهر المدينة الفاضلة، لا تستحق النظر إليها، لأنها تخفي الساحل الذي ستهبط عليه البشرية إلى الأبد. ويضيف العصيان بالنسبة لكل مؤرخ « هو فضيلة الإنسان الحقيقية»، جاء التقدم من العصيان ومن التحدي.

تعرض دُور إلى العديد من الكتب التي صدرت في هذا المجال، وناقش بموضعية آراء ونتائج الباحثين، سواء متفقاُ أو معارضا، مما سيقود إلى توسيع دائرة الحوار حول هذه القضايا الهامة.

وفيما يتعلق بمضمون الكتاب يجب الاشارة إلى التفكير المنهجي، الذي يوليه الكاتب للقضايا الاجتماعية والاقتصادية – سواء فيما يتعلق بألمانيا أو بالجنوب العالمي – التي أما يتجاهلها الكثير من الكتاب، أو يقدمونها بتبرير فطير. لكن يجب هنا، أن نشير إلى كتاب عالم الاجتماع ستيفان ليزنش بعنوان لافت» الطوفان بجوارنا، المجتمع الخارجي وثمنه» يعني الخارج هنا: استغلال موارد الآخرين، وتحويل التكاليف إلى الخارج، والاستلاء على الأرباح الداخلية، وتعزيز صعود الذات، على حساب إعاقة الأخرين، وحتى منع تقدمهم.

كما أستُقبل الكتاب بحفاوة وحظي بمراجعات عديدة من باحثين وصحفيين متخصصين، نذكر منهم أثنين تمثيلاً لا حصراً، حيث جاءت مراجعتهما بإسهاب وجهد مقدر: البروفيسورة إينا شيلدباخ أستاذة العلوم السياسية والسياسة الاجتماعية في جامعة ريجنزبورج ، حيث تقول : « إنه أحد الكتب القليلة – إن لم يكن الكتاب الوحيد باللغة الألمانية – في هذا المجال الذي يتناول بشكل منهجي القضايا الاجتماعية داخل ألمانيا مع إطلالة ومراعاة الجنوب العالمي. كما أنه يعكس الأسئلة الاجتماعية الجديدة التي يثيرها التحول الاجتماعي البيئي للاقتصاد أيضاً.

وكذلك الدكتورة إنجبورج جيرلاخ، الكاتبة، وأستاذة اللغة الألمانية، تكتب: «يصف كلاوس دُور عمله الجديد بتواضع بأنه «مقالة، وفي النهاية «رسالة في زجاجة»، بينما قدم أستاذ علم الاجتماع كتاباً طموحاً، «وبوصلة»، من أجل مجتمع أفضل، ويفتح آفاقاً جديدة.

وتختتم مراجعتها «عندما صدر الكتاب، لم يكن لدى المرء أحساس أو شعور بنشوب حرب وشيكة في أوكرانيا، والتي تلقي بظلالها الآن على كلّ شيء. ولكن إذا كان الأمن (المفسّر عسكرياً) يحظى بأولوية قصوى على جميع المخاوف المُتعلقة بالاستدامة، فإن مقال كلاوس دُور المهم للغاية، يهدد لسوء الحظ بأن يصبح رسالة في زجاجة*، والتي يمكن للمرء أن يأمل فقط، في أن تصل إلى مستلميها المحتملين».

يكتب كلاوس دُورــ الذي ولد في عام 1957 في قرية، بولاية هسن ‭\‬ ألمانيا الغربية، من أب عامل في السكك الحديدية وأم مساعدة عاملة في مخبز ــ «عشتُ المرحلة الطلابية، الثانوية والجامعية، بداية ناشطاً في رابطة الطلاب الماركسيين، ومثل الأشخاص ذوي التفكير المماثل من جيلي، بأنّ الرأسمالية ستتفكك عاجلاً وليس آجلاً ــ في ألمانيا الغربية وفي جميع أنحاء العالم ــ هذا ما أوحت به الأحداث السياسية في السبعينيات، ففي فرنسا، كان هناك تحالف جبهة شعبية يسارية يتجه نحو السلطة، وأصبح الحزب الشيوعي الاِيطالي حزباً جماهيرياً، تحرر من النموذج السوفيتي، وباتجاه تسوية تاريخية مع الديمقراطية المسيحية. وكاشتراكيين أو شيوعيين دافعنا عن المساواة ودافعنا عن حركات التحرر الوطني في العالم الثالث وانبهرنا بها، وبسقوط الدكتاتوريات في اليونان والبرتغال وإسبانيا، ولكن كان توجهنا الثقافي تحررياً فوضوياً. ويعتبر نفسه عضواً في جيل متميز، الذي عاش الصحوة الثورية، وهو في نفس الوقت طفل لأكبر هزيمة ممكنة ــ انهيار الحركات العمالية الاشتراكية والشيوعية، وكذلك انهيار النماذج الاجتماعية التي ادعت لفترة قصيرة، أنها بدائل مرغوبة للرأسمالية. ويقول «آمل أن يمنعني الوعي بالهزيمة من البحث عن الأخطاء والأخطاء في الآخرين فقط».

ويشير إلى أنّ الرأسمالية لا يمكن أن تنهار من خلال اضمحلال داخلي؛ وإنما من خلال صدمة خارجية شديدة الضراوة، جنباً إلى جنب، مع بديل موثوق به، يمكن أن يسبب في انهيارها، كما توقع المؤرخ فرناند بروديل في كتابه العظيم « التاريخ الاجتماعي للقرن الخامس عشرــ الثامن عشر انطلاقة للاقتصاد العالمي.

ويقدم كلاوس دُور، الاشتراكي والبيئي وأستاذ علم اجتماع العمل والصناعة والاقتصاد بجامعة ينا ‭\‬ ألمانيا الآن، كتابه الجديد الهام، ــ والذي يصدر في ظروف عالمية في غاية التعقيد: جائحة كورونا، الحرب الروسية ــ الأكرانية، التكتل الاقتصادي الغربي وأزمة الغذاء العالمية ــ متناولاً ومصنفاً ومنتقداً وجهات نظر مختلفة حول أزمة المناخ ويطور وجهة نظره الخاصّة بالتحول الاجتماعي والإيكولوجي القادم. ولماذا كان لمجتمعنا حتى الآن مثل هذا التأثير المدمر على الطبيعة والمناخ، وكيف يمكن تحويله إلى مجتمع مستدام، وكيف يمكن مراعاة القضايا الاجتماعية القديمة والناشئة بشكل منهجي؟

ويقود القارئ عبر فصوله العديدة، لسياحة فكرية، وجدال موضوعي حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافيّة، معروضة بشفافيّة وحريّة، ويضيف: «حقيقة إن الحريّة يجب أن تكون دائماً حريّة أولئك الذين يفكرون بشكل مختلف، وهي فرضية معيارية يسبقها هذا المقال. وبعد كلّ شيء، إنّه المجتمع الديمقراطي الذي يسمح لي، بالمطالبة بمستقبل ما بعد الرأسمالية على أنقاض الاشتراكية المفقودة. وهكذا، أواجه ردود فعل انتقادية، وحتى سلبية، تجاه الديمقراطية البرلمانية، سواء كانت من اليمين أو من اليسار». ويهدي كتابه إلى فريدريك إنجلز وإلى» النشطاء في حركة المناخ»، والاِهداء لإنجلز بمناسبة عيد ميلاده الـ 200، ولكن ليس إلى إنجلز الثوري، وإنما إلى إنجلز اللاحق، الذي يشير ويوضح المسار البرلماني للاشتراكية.

يختتم دُور كتابه بقوله» من المحتل جداً، أن لا تجد رسالتي أذناً صاغية، ولكنها سوف تبقى كمداخلة لمناضل سوسيولوجي (اجتماعي) فردي.

إننا نأمل ألاّ يكون كلاوس دُور على حقّ في تقييم تأثير كتابه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق