سياسة

مجموعات القضايا تركب قوارب الاحتجاج السلمي

عبد العزيز كوكاس

تجاوز الاحتجاج الاجتماعي عتبة النشاطات التقليدية للممارسة السياسية، وإذا كان البوعزيزي في تونس قد لجأ إلى إضرام النار في جسده، وامتدت شرارتها لتحرق نظاماً سياسياً بكامله، فإن ذلك كان أقصى تعبير عن الحرمان واليأس والقهر الاجتماعي وكل أشكال «الحكرة»، لذلك أصبح حرق الجسد نمطا جديداً للتعبير عن الاحتجاج، لكنها، شكل يائس فجر كل الأوضاع بتونس… لقد حدث شيء عندنا من هذا القبيل، فقد أضرم معطلون النار في أجسادهم بعد أن صَبُّوا على أنفسهم البنزين، ولجأت جماعة أخرى لشرب السم في محاولة للانتحار الجماعي، ومع ذلك لم تنطلق أي شرارة، ولا غدا أمر إحراق الذات موضة للاحتجاج في المغرب.. ما السبب؟!

منذ القدم، أكد علماء الاجتماع السياسي أن الاحتجاج ناتج عن نمو مشاعر الإحباط والتهميش والإقصاء والعُزلة السياسية، لقد ذهب أرسطو إلى أن العنف والثورة، أي إحداث الأذى الشخصي أو التدمير المادي، ينتجان دوماً عن عدم الرضى والكفاح من أجل ظروف أفضل للعيش… لكن مع عالم الاجتماع تيد رو برت غور (T.R. Gurr)، ستنضج النظرية أكثر، حيث يقول: «إن التسلسل السببي الأساسي في العنف السياسي يبدأ بتنامي الشعور بالاستياء، ومن تم تسييس هذا الاستياء، وينتهي بتجسيده في العنف السياسي ضد أهداف وشخصيات ورموز سياسية».

في ظل الوضع الحالي تبدو الحركات الاحتجاجية نوعاً من المشاركة في صناعة القرار السياسي، تختلف عن الأسلوب التقليدي للممارسة السياسية.. في القديم، حتى نهاية التسعينيات، كانت أحزاب المعارضة وعبر الإطارات الجماهيرية، هي التي تؤطر المجتمع، من هنا امتداداتها الشبيبية والطلابية والنسائية والنقابية، لقد كانت الأحزاب المضادة للمشروع الرسمي للدولة، تتواجد في كل مكان.. من جمعيات الأحياء والوداديات السكنية إلى جمعيات الأطفال والتلاميذ، إلى الإعلام والثقافة والفن.. وفي كل القطاعات الحيوية: محامون، مهندسون، فلاحون، عمال، موظفون…. لذلك كانت كل الحركات الاحتجاجية التي تقودها هذه المنظمات أو الفئات الاجتماعية.. تفهم من الحكم باعتبارها رسالة سياسية تستهدف شرعية وجوده، من هنا ذلك الشكل الصدامي والعنف السياسي في مواجهة الاحتجاجات التي غالبا ما يكون ظاهرها مطالب اجتماعية أساسية مشروعة، أما ترميزات رسائلها فتحمل بُعد العنف السياسي ضد سياسات الحاكمين.

مع نهاية التسعينيات، تغير الوضع.. حدث انفتاح نسبي، وانتعش فضاء الحريات العامة، وأصبح الاحتجاج عُملة السياسة في المغرب، لم يعد فقط آلية للتعبير عن الحرمان والتهميش والإقصاء، بل أصبح ملاذاً سياسياً أقوى من التصويت والمشاركة في الحملات الانتخابية والحضور إلى الأنشطة الحزبية أو النقابية، إذ رأينا كيف تقلص حجم المشاركة في مسيرات فاتح ماي والحضور في تجمعات الأحزاب.. إن الاحتجاج هنا آلية للممارسة السياسية الشعبية أكثر تأثيرا من النشاط الانتخابي ومن التصويت الذي لم يعد يؤثر لا على صناعة القرار السياسي ولا في تمثيلية حقيقية لمواطنين… فاحتلال المواطنين بشكل يومي في المغرب لمساحات واسعة من الفضاء العام وأمام أمكنة ذات رمزية سياسية: عمالة أو ولاية، برلمان، وزارة أو مؤسسة عمومية، الزحف نحو الرباط العاصمة، ، هو الذي يساهم الآن في ترسيخ ثقافة المواطنة، وينزع عن الاحتجاجات الاجتماعية الطابع الغرائزي والدموي.. يقول الباحث الأنثربولوجي عبد الله زارو: «إن السلوك الاحتجاجي ظاهرة صحية وحضارية، صحية لأنها دالة على أن الجسم الاجتماعي لازال يشتغل بما يعنيه ذلك من قُدرة على الإحساس والتفاعل مع المحيط (…)، وهي حضارية لأنها تكشف عن نفسها وتمارس بالعلن» ويضيف «يبدو أن الاتجاه في الاحتجاج المرح الذي لا يبحث عن تغيير العالم بقدر بحثه لأصحابه عن موطئ قدم في هذا العالم كما هو في ذاته، أقول هذا الاحتجاج هو الذي بدأ في التبلور ببطء ولكن بثقة في أجندة الاحتجاج الاجتماعي المغربي».

هذا الأسلوب الجديد في المغرب، إذا استمرت الدولة في تفهم مطالبه والابتعاد عن مواجهته بشكل صدامي، هو الذي سيغيِّر أماكن المشاركة السياسية لعموم المواطنين التي لم تعد بالضرورة هي مقرات الأحزاب والنقابات والمنظمات الجماهيرية التي تحولت إلى منظمات للنخبة والعائلة، ولا هي البرلمان أو المؤسسات المنتخبة.. لقد خرج المغاربة من ثقل وطأة الاختيار بين ضريبتين: الصمت أو العنف، وفهم جزء من عقل الدولة أن التدخل العنيف هو الذي يغذي أشكال التطرف، بل إن الدولة نفسها أضحت تلجأ إلى الاحتجاج في الشارع العام من تظاهرات البيضاء بعد أحداث 16 ماي الإرهابية عام 2003، إلى المسيرة المليونية الأخيرة احتجاجا على انحياز البرلمان والإعلام الإسبانيين على هامش أحداث مخيم «أكديم إزيك»، مروراً بالمسيرة الاحتجاجية حول أسرى تندوف التي نظمها «الائتلاف الوطني» بالرباط!

إن استثمار هذا البعد وترسيخه هو الكفيل بجعل الاحتجاج يحافظ على أسلوبه المدني والحضاري ويغدو كآلية للمشاركة السياسية الحديثة، وهنا تكمن الاستفادة من مشاركة المواطن في صنع القرار، لأن الفضاء العام هو مكان للصراع والتنافس بين مواقف وبنيات، بين تصورات وأفكار، بين واقع الحرمان والتهميش والطموح لحياة أفضل وبين إكراهات واقعية… هذا ما يسمح بأن يحافظ البناء الاجتماعي على مرونته سلاسة تطوره، ويصبح للمغرب بنية حوارية لطبقاته الاجتماعية التي لا تصطدم مع بعضها البعض في شكل زلزال أو بركان، بل يغدو الشارع العام مكاناً مكثفا ليبلغ فيه المحتجون أكبر قدر من المعلومات عن أوضاعهم، وليكون لمطالبهم الاجتماعية صدى في صناعة القرار السياسي…

إن ازدياد ضغط المطالب الاجتماعية أفرز تحولا نوعيا في المشهد السياسي، هو ما يسميه الباحث الأمريكي روسل جيه دلتون (R.J. Dalton) في كتابه «دور المواطن السياسي في الديمقراطيات الغربية» بظهور مجموعات القضايا، وهي عبارة عن جماعات صغرى من المواطنين تختلف في بنيتها وحجمها لكنها تتوحد، رغم عدم تجانسها، في الالتفاف حول قضايا محددة: (التنمية، البيئة، الشغل، رفع ضرر، استهلاك، إجادة خدمة، احتجاج على ارتفاع غلاء الأسعار..) أي ما أضحى يشكل انشغالات اجتماعية هي ما يسمح بتعبيرات مدنية أكثر عقلانية، لها مطالب محددة واضحة (جمعية ما تقيش بلادي، ما تقيش ولدي، حماية المستهلك، تنسيقية مناهضة غلاء الأسعار، العنف ضد النساء..) لم تعد تقدمها بالضرورة أحزاب سياسية تخدم بأجندة محددة، بل أضحت وداديات سكنية وجمعيات للتنمية القروية في مناطق نائية أو مجموعة ضحايا في قضية صغيرة جداً.. هي من يؤطر هذه الاحتجاجات التي أصبحت تنمو خارج الحضانة السياسية، وهو ما قد يعني، إذا تم الحفاظ على النمو الطبيعي للظاهرة، أننا أمام مجتمع ينمو خارج السلطة التقليدية للدولة والأحزاب، ليس مجتمعا سائبا بالضرورة، لكنه مجتمع عقلاني.. وإن بدا أحيانا أنه غير مؤطر وهجين ويحمل شعارات الملاعب الرياضية، وينمو بشكل غير متجانس وغير منضبط وغوغائي، فإنه يكتسي جل مميزات المجتمع المغربي، ومنحى تطوره، لكن هل يمكن تفهم تعبيرات ورموز إشاراته؟!

كل شيء متوقف على عقل الدولة والنخبة السياسية، لأن هذا يقدم صمام أمان للدولة واستقرار مؤسساتها، فالعالم العربي عبارة عن صحراء قاحلة وشمسها حارقة، وكل شيء فيها يابس لذلك فهو قابل للاحتراق.. فهل نكون ذلك الاستثناء الجميل الذي لا يتكرر، ونشكل واحة ديمقراطية فيحاء في قلب كل هذه الصحراء المترامية الأطراف من المحيط إلى الخليج؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق