بطاقات مشعثة
معتصم الحارث الضوّي
(1)
شرعتُ في القراءة: تخرج “ص” من جامعة هارفارد بدكتوراة تسد عين الشمس، وعاد إلى السودان. ذات جمعة، وبعد وليمة “الكرامة” اتكأ خاملا، ثم “دردم” سفّة عملاقة، اتبعها ببصقة ضخمة كادت تصيب أرجل الضيوف في مقتل، ثم قال وهو يمسح لعاب السعوط بطرف جلابيته: عليّ الطلاق بالثلاثة الطهارة الفرعونية زيها مافي وبتحفظ بناتنا!
أشار ساخروف بصوت مبحوح وهو يغالب القيء: ليه كده يا أخي؟!
(2)
بحثتُ عنها في أضابير وزارة العمل، ونقّبتُ في رئاسة مجلس الوزراء، وسألتُ في وزارة المالية، وذهبتُ إلى وزارة الطاقة، وتسللتُ إلى وزارة…
قاطعني ساخروف بسأم: ياخي مش مفردة “استراتيجية”، والله ما حتلاقيها!
(3)
بدأتُ الكتابة: إن ظاهرة تسرّب المستندات والوثائق الرسمية، ونشرها على الملأ لتُعبّرُ عن شرخ في التربية الوطنية وخلل أمني شنيع وعدم إدراك لمتطلبات…
تلصص ساخروف ليقرأ ثم صرخ مرتعبا: الخوف يطلعوا قسيمة زواجي من المرأة الثانية!!
(4)
البعض يتحدث عن التنمية المتوازنة، وفئة ثانية عن إعادة المهجّرين إلى مناطقهم الأصلية، وثالثة…
قاطعني ساخروف: لن تتحقق تلك الأهداف دون إحصاء شامل للسكان والموارد الطبيعية. حنعيد ونزيد زي أم كلثوم لحد امتى؟!
(5)
كنتُ استمعُ في جذب صوفي إلى “يا حبيبا قد تناسى.. بعد ما كان وفيا”، فإذا بساخروف يقتحمُ نشوتي قائلا: ياخي سيبك من الكلام ده واسمع الأغنيتين ديل. دي أغنية أم شبتو الكونية “وعدتني بصحن كمونية.. لو ما عرستني إن شاء الله يكتلوك في الضبطية”، وأغنية أم جُركُم الكوكبية “تعال يا سجم الرماد.. يحرق قلب أمك يا الكاتلني بُعاد”…
في تلك اللحظة ابتعد ساخروف خائفا عندما رآني أبحثُ عن سلاح أبيض.. لأخُرسه إلى الأبد.
(6)
لم يأتِ تطور الغربيين عبثا، فعندما اكتشفوا عبثية الحروب وأثمانها الباهظة، سارع المفكرون لاجتراح مبادئ العقد الاجتماعي ودولة المواطنة، وتحوّلت مقولاتها الرئيسة إلى جزء من العقل الجمعي، ولذا فإن السلوك المتخلف مستهجن حتى في أبسط مظاهره.
غاب ساخروف في سحابة من التفكير العميق وأخيرا نطق: فاتك القول إن السبيل الأمثل للتغيير في حالتنا هو إعادة صياغة العقل الجمعي؛ عبر التعليم والثقافة والفن الهادف والرياضة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني.
(7)
أبو العُرّيف: يُفتي في جراحة المخ والسياسة، والنانوتكنولوجي والفقه الدستوري، وزراعة الأعضاء والاقتصاد الكُلي، واللطيف أنه لا يفقه أيا من تلك العلوم! لو ركز كل منّا في مجاله وأبدع فيه (كما نفعل خارج البلاد) لارتقينا المعالي.
تأملني ساخروف وقال: عارف حاجة. أول مرة اتفق معك!
(8)
إذا أتينا بطبيب ليدير الإعلام، وعطشجي ليدير الاقتصاد، وإعلامي ليدير الزراعة، وحدّاد ليدير القضاء، ومُعلّم ليدير الصناعة، وراعي ليدير الطرق والكباري، وتشكيلي ليدير الري، ومزارع ليدير الآثار، ومهندس ليدير الداخلية، فما النتيجة؟
اشتعل اللهب في عينيّ ساخروف وهو يجيبني: حتكون شنو يعني؟! هي حكومتنا السنية بشحم أهلها وهزال أهلنا!
(9)
إذا لم يسطع ضوؤنا
في عتمة الليل السرمدي
لشعر ساكنو السماء
أن الأرض سيخبو نورها
*
انظري إلينا أيتها الحرية
واعلمي أننا شعبُك..
وعندما يجبُنُ الآخرون عن ذرف الدموع
فإننا بالدم ندفعُ القرابين!
أبيات مترجمة من قصيدة “أوروبا صامتة.. مرة أخرى” للشاعر المجري العظيم شاندور بتوفي Petőfi Sándor